وكالات - محمد ياغي - النجاح الإخباري - لا يمكن استبعاد ما قام به يفغيني بريغوجين، رئيس شركة فاغنر الروسية الأمنية، الأسبوع الماضي، عن المحاولات الغربية لحسم الحرب في أوكرانيا لصالحها، من خلال شق الداخل الروسي على نفسه وسيطرة جماعات معادية للرئيس بوتين على الحكم.
لا توجد أدلة حتى الآن على تواطؤ بريغوجين مع الغرب على ذلك، لكن ما قام به من سيطرة على مقاطعة روستوف، ودعوته لضباط الجيش الروسي للالتحاق به لتغيير الرئيس بوتين، وادعائه أن قواته ستتقدم باتجاه موسكو، تؤكد أن نيّته كانت الانقلاب على الدولة الروسية والسيطرة على الحكم، وهو ما يخدم هدف الغرب بإنهاء الاستقرار الداخلي الروسي، وبالتالي هزيمتها في الحرب في أوكرانيا.
المحاولة فشلت لعدم انضمام ضباط من الجيش وسياسيين روس لخطوة قائد «فاغنر»، ولم يكن أمامه إلا قبول الحل القادم من بيلاروسيا لإنقاذ نفسه قبل أن تهاجمه القوات الروسية وتقضي عليه.
لكن ما قام به بريغوجين يدعوننا للتأمل في الكيفية التي يمكن فيها للحرب أن تنتهي في أوكرانيا. هنا يمكن التأمل في ثلاثة احتمالات:
الأول: أن تُهزم القوات الروسية التي غزت أوكرانيا. هذا الاحتمال ليس مستبعداً إذا نظرنا إلى بعض الحقائق، ومنها أن الاتحاد السوفياتي السابق كان قد احتل أفغانستان العام 1979 لكن حرب الاستنزاف، التي استمرت عشر سنوات بدعم غربي متواصل لما سُمّيَ حينها المجاهدين، قد ألحقت هزيمة بالجيش الأحمر أجبرته على الانسحاب العام 1989، وكان من نتائجها بعد سنة واحدة انهيار الدولة السوفياتية وتفككها.
أميركا التي غزت فيتنام العام 1965 تمّت هزيمتها على أيدي ثوار فيتنام الشمالية، الذين تلقوا دعماً لا حدود له من الصين والاتحاد السوفياتي السابق، واضطرت للانسحاب العام 1973 بعقدة سُمّيت حرب فيتنام حملتها معها لسنوات طويلة.
في كلتا الحالتين لم تحتمل الدولتان الغازيتان، أميركا والاتحاد السوفياتي، الخسائر البشرية والمادية، ما دفعهما للانسحاب. عندما رحلت أميركا عن فيتنام كانت قد خسرت ما يزيد بقليل على 58 ألف جندي، بينما وصلت خسائر الاتحاد السوفياتي إلى 15 ألف جندي.
الاحتمال الثاني هو سقوط الدولة الروسية في صراع داخلي يدفعها لإنهاء الحرب في أوكرانيا. تحركات قوات فاغنر الأخيرة الفاشلة مثّلت أحد أوجه هذا الخيار. دعونا نلاحظ أن الحرب ليست كارثة على أوكرانيا وحدها ولكن على روسيا أيضاً.
في معركة «باخموت»، ووفقاً لفيديوهات قائد «فاغنر»، خسرت «قواته» لوحدها 20 ألف مقاتل. هذا يعني أن خسائر القوات الروسية في الحرب المستمرة منذ سنة ونصف السنة تقريباً هي عشرات الآلاف من الجنود.
بالطبع خسائر أوكرانيا، كما كان الحال في فيتنام وأفغانستان والعراق، كارثية وربما بمئات الآلاف، لكن السؤال هو: إلى أي «وقت» يمكن لروسيا أن تستمر في حربها وأن تستنزف جيشها ومواردها الاقتصادية قبل حدوث تمرد داخلي سواء من جيشها أو من شعبها، خصوصاً أن الغرب مصمم على الاستمرار بدعم أوكرانيا وعلى إرسال المزيد من الأسلحة المتطورة لها حتى هزيمة روسيا؟
علينا أن نلاحظ هنا أن محاولات الغرب لإسقاط الدولة الروسية لا تتوقف على العقوبات الاقتصادية وعلى تزويد أوكرانيا بأحدث الأسلحة، ولكن أيضاً على الاتصال بالدبلوماسيين الروس وربما بقادة وضباط في الجيش الروسي؛ لدفعهم لإعلان تمردهم وانفصالهم عن نظام الرئيس بوتين، وربما يتم إغراؤهم بالأموال أيضاً، وهي طريقة سبق أن استخدمتها دول عدة في السابق.
هنالك تقارير تقول: إنه كان يُعرض على الضابط السوري وبحسب رتبته ومكانته داخل الجيش من 15 إلى 30 ألف دولار؛ للانشقاق عن نظام الأسد، وأخرى تقول: إن رياض حجاب، رئيس الوزراء السوري الذي انشق عن نظام الأسد وهرب إلى الأردن العام 2012، قد حصل مقابل ذلك على عدة ملايين من الدولارات.
لكن بصرف النظر عن صحة هذه التقارير، التي قد تكون جزءاً من الحملة الدعائية للنظام السوري، فإن استخدام الأموال من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية لتنظيم العملاء وشراء الولاءات، وتحفيز آخرين على القيام بأعمال ضد دولهم، هو شيء يقع في صلب عمل هذه الأجهزة.
الاحتمال الثالث هو هزيمة أوكرانيا، لكن قدرة روسيا على ذلك تتوقف إما على احتلال أوكرانيا كاملة، وإما على تدمير كامل جيشها ودفعها بالتالي للاستسلام.
فرصة احتلال أوكرانيا تبدو ضعيفة جداً؛ لأن القوات الروسية ما زالت تراوح في الأماكن التي كسبتها منذ بداية الحرب، وهي تخسر جزءاً منها أحياناً لصالح القوات الأوكرانية، وأحياناً تعيد استعادتها أو تكسب قرى وبلدات بديلة. لكن بالمجمل لم تتمكن من إضافة أراض جديدة لها في مقاطعة دونيتسك منذ أكثر من سنة، وهي المقاطعة التي دخلت روسيا الحرب أساساً بهدف السيطرة عليها.
بالمثل لا يبدو تدمير كامل الجيش الأوكراني ممكناً؛ إذ إن الأعداد التي يجري تدميرها يتم تعويضها بضم عناصر جديدة من الشعب الأوكراني للجيش. في مثل هذه الحالة، إن تدمير الجيش الأوكراني يتوقف على إبادة الشعب الأوكراني كاملاً، وهذا غير ممكن لشعب عدده 42 مليون إنسان - ربما ثلثهم قادر على القتال - إلا باستخدام أسلحة دمار شامل، وهو ما قالت روسيا مراراً: إنها لن تكون البادئة في استخدام هذا السلاح ما لم يجرِ تهديد مباشر لأراضيها.
في وضع كهذا، أمام روسيا خياران: الاستمرار في استنزاف نفسها وخسارة الحرب في نهاية المطاف كما حدث سابقاً في أفغانستان، أو تصعيد الحرب لتشمل دول خطوط الإمداد لأوكرانيا، ووضع العالم بالتالي على حافة الحرب النووية. ولأن حرباً كهذه لا منتصرين فيها؛ لأنها الحرب التي ستنهي العالم الذي نعرفه، فإن الجميع سيكون مُكرهاً على البحث عن حل وسط ينهي الحرب في أوكرانيا. روسيا لن تأخذ كل ما تطلبه، لكنها أيضاً لن تخرج مهزومة من هذه الحرب كما يريد الغرب.