وكالات - سنية الحسيني - النجاح الإخباري - اختتم أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي زيارته للمنطقة، أول من أمس، بعد أن مر على مصر وحلفائه الإسرائيليين، في زيارة خاطفة استمرت لثلاثة أيام. جاءت هذه الزيارة إلى بلادنا في أعقاب يوم الخميس الماضي الدامي، إذ شهدت فلسطين استشهاد عشرة  مواطنين دفعة واحدة، بنيران قوات الاحتلال التي اقتحمت مدينة جنين. رغم أن الفلسطينيين، وبعد تجربتهم الطويلة مع الإدارات الأميركية المختلفة، لم يعودوا يتوقعون الكثير من الولايات المتحدة أو يعولوا عليها أو على وعودها أو وساطتها. وبنظرة مقارنة سريعة بين القضايا التي أثارها المسؤول الأميركي خلال لقاءاته مع الإسرائيليين والفلسطينيين، يتضح أن زيارته جاءت لتدعم الحكومة اليمينية المتطرفة للاحتلال، بكل تصريحاتها وأفعالها المستشرسة ضد الفلسطينيين، بينما ركزت على مطالبة الفلسطينيين بضبط النفس، مغلفة مطلبها بوعود وتطمينات مكررة ومفرغة من مضمونها حول حل الدولتين والدعم الاقتصادي للفلسطينيين، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس.
التقى بلينكن، خلال زيارته لدولة الاحتلال، رئيس وزرائها ورئيسها ووزيري خارجيتها وجيشها من بين آخرين، وهي تعتبر ثالث زيارة رسمية لمسؤول أميركي للحكومة الإسرائيلية الجديدة في غضون شهر واحد، إلا أنها تعد الأهم لأنها الأعلى على المستوى السياسي والدبلوماسي، ومقدمة للقاء مرتقب بين الرئيسين الأميركي والإسرائيلي. تأتي هذه الزيارة في ظل تخوفات غربية وأميركية حول طبيعة هذه الحكومة اليمينية، التي أججت في أيامها الأولى الاحتجاجات والانتقادات الداخلية والدولية من ناحية، في ظل مساعيها لتقويض سلطة القضاء والحريات وتعميق التوجهات الدينية داخل إسرائيل، وصعدت من ناحية أخرى تصادمها مع الفلسطينيين، فلم تخف تصريحات رموزها تطرفهم، كما تسببت ممارساتها رغم أيامها المعدودة في السلطة بتفجير الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم ذلك ركزت تصريحات بلينكن في هذه الزيارة مع مسؤولي الحكومة الإسرائيلية الجديدة بالتأكيد على «دعم بلاده الثابت لإسرائيل وشعبها، والذي لن يتزعزع أبداً»، مؤكداً على أن شراكة البلدين بنيوية متعمقة ومتأصلة «تتجاوز أي حكومة أميركية أو إسرائيلية». وكرر بلينكن التزام واشنطن الصلب بأمن إسرائيل، والذي أكد على أنه «أقوى من أي وقت مضى»، في ظل تصاعد صدامها مع الفلسطينيين، وشن إسرائيل هجوم بالطائرات المسيرة على إيران. واعتبر المسؤول الأميركي أن عملية القدس «مروعة وإرهابية وجريمة شنيعة»، دون التطرق من قريب أو بعيد إلى الاحتلال وجرائمه بحق الفلسطينيين، التي تحفز أعمال المقاومة، والتي يجدها بلينكن مبررة فقط في أوكرانيا. كما أشار الضيف الأميركي إلى أن بلاده وإسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، وأكد على تعاون البلدين في مواجهة أنشطة طهران التي وصفها بأنها مزعزعة للاستقرار في المنطقة وخارجها. وأكد بلينكن أيضاً أن بلاده تعمل على تعميق «اتفاقيات إبراهيم» بين إسرائيل ودول عربية لتعزيز أمن إسرائيل في المنطقة، مشيراً إلى جهود بلاده في ذلك المضمار لتوسيع هذه الاتفاقيات مع دول أخرى، ومشاركة وفد كبير من الحكومة الأميركية في الاجتماع الأول في أبو ظبي لمجموعات عمل منتدى النقب، إلى جانب ممثلي إسرائيل والبحرين ومصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة، والذي اعتبره بلينكن أكبر تجمع لمسؤولين إسرائيليين وعرب منذ مؤتمر مدريد العام ١٩٩١.  
لم ينس المسؤولون الإسرائيليون في هذه الزيارة تقديم الامتنان والشكر للولايات المتحدة، ووقوفها إلى جانب إسرائيل على مدار ٧٥ عاماً، ومساعدتها في أوقات الأزمات، وفي مواجهة مساعي نزع الشرعية عنها في الأمم المتحدة. ويبدو ذلك مناسبة لإعادة التذكير بحقيقة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، على مدار أكثر من سبعة عقود، قدمت خلالها الولايات المتحدة الدعم السياسي والمالي والعسكري المفتوح لإسرائيل، ما جعل إسرائيل الحليف المقرب الأول للولايات المتحدة.
وتعتبر أميركا الدولة الأكثر استخداماً للفيتو في مجلس الأمن، لمنع صدور عشرات القرارات التي طالبت بمحاسبة إسرائيل كدولة محتلة للأراضي الفلسطينية ولأراض عربية أخرى ولاعتداءاتها المتكررة على دول في المنطقة، بما يجعلها المزعزع الحقيقي لأمنها. ووصلت مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل في فرض ضغوط وعقوبات على أعضاء لجان تحقيق ومسؤولي محاكم دولية لتقويض التحقيق مع إسرائيل أو محاكمتها، أو فرض عقوبات أو تقديم إغراءات للتأثير على تصويت الدول لصالح إسرائيل في المحافل الدولية. وقدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة مليارات الدولارات لدعم إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً، في ظل التزام بالمحافظة على تفوقها العسكري من بين جميع دول المنطقة، والذي مكن إسرائيل فعلياً عبر كل تلك السنوات الماضية ليصبح جيشها واحداً من أكثر الجيوش تطوراً في استخدام الأسلحة النوعية والمتطورة تكنولوجياً، بل باتت إسرائيل واحدة من أكبر مصدري الأسلحة العالميين. يأتي ذلك بالإضافة إلى تشريعات أميركية التي يمكن أن تتناقض مع القانون الدولي، من أجل مساندة إسرائيل، كتلك التي اعتبرت القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، واعتبار منظمة التحرير كيانا إرهابيا. وتفسر هذه الحقائق تصريحات الولايات المتحدة الفارغة من المضمون سواء في هذه الزيارة الأخيرة أو ما قبلها، والتي أكدت على دعم العملية السلمية طوال ثلاثة عقود، دون أن تدفع فعلياً باتجاه حل سلمي، إذ باتت تعتبر واشنطن شريكة للاحتلال في استخدام هذه العملية كطريق لاستدامة الوضع الاحتلالي القائم، إما بتخدير الفلسطينيين بوعود جوفاء أو بالضغط والترهيب.
حمل بلينكن في زيارته للفلسطينيين الرسالة الأهم لهم، وذلك بدعوتهم لبذل مزيد من الجهود للتهدئة، وفي المقابل، أكد أن بلاده ستقدم ٥٠ مليون دولار إضافية لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين، ونوه لنية الولايات المتحدة بالعمل على تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني. كما أكد على «تمسك بلاده بالوضع القائم في المواقع المقدسة في مدينة القدس»، وذلك تفادياً لانفجار الأوضاع في الأراضي المحتلة، في ظل اعتراف بلاده الأحادي الجانب بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، في تجاهل صريح لاحتلالها، ومخالفة لقواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. جاءت تلك التصريحات ضمن إطار عام لمواقف أعاد تكرارها تفيد بـ»دعم بلاده لحل الدولتين»، والتأكيد على أنها «ضد الإجراءات من قبل أي طرف التي تجعل تحقيق حل الدولتين أصعب، مثل توسيع المستوطنات وعمليات الهدم والإخلاء». وتأتي تلك المواقف والدعوات الأميركية في ظل عدم اعتبار بلاده للاستيطان غير شرعي، رغم أنه «يقوض السلام»، على حد تعبير بلينكن، وعدم إقدام بلاده على ردع أو منع أو تأنيب إسرائيل على تلك الأفعال، ودون أن يؤثر ذلك على علاقة البلدين في أي منحى من مناحيها.
في الختام، يبدو أن بلينكن وحكومته غير مدركين لحقيقة الواقع الذي تمر به الأراضي الفلسطينية، اليوم، والذي عكست التطورات الأخيرة خطورته وفرص ذهابه نحو الأسوأ. فخلال الشهر الماضي وحده، استشهد ٣٥ فلسطينيا واعتقل ٤٠٠ آخرون، بالإضافة إلى عشرات الإصابات، في تصعيد قد يتجاوز ما سجله العام الماضي، والذي وصف بالأعنف منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انتهت العام ٢٠٠٥. فقد أصدرت الحكومة الإسرائيلية الجديدة عدة قرارات وأوامر عسكرية تسمح بزيادة حصول المستوطنين على رخص لامتلاك السلاح حيث أكد بن غفير أنه يريد سلاحا أكثر في الشوارع، رغم أن هناك عددا من المستوطنات في الضفة الغربية يمتلك السلاح ثلث قاطنيها من غير العسكريين، اليوم. كما أوعزت الحكومة الجديدة بنشر فرق إضافية من الشرطة والجيش في الأراضي المحتلة، وزيادة نسبة الإغارة والمداهمة للمناطق الفلسطينية، مع إعطاء الأوامر بإطلاق النار الفوري. في المقابل، زادت الحكومة الجديدة من قراراتها وتشريعاتها التي تعاقب الفلسطينيين من مصادرة الأراضي لصالح توسيع الاستيطان وقتل الفلسطينيين وهدم منازلهم واعتقال أبنائهم، ناهيك عن تصريحات عنصرية من قبل وزراء في الحكومة الجديدة تنبئ بالقادم الأسوأ. وكان من الأجدر بالحليف الأميركي الأقرب لإسرائيل أن ينصحها بناء على المعطيات السابقة بأن انفلات الواقع الفلسطيني الهش لن يكون في صالحها، بدل التوجه للسلطة الفلسطينية في ذلك.