وكالات - أشرف العجرمي - النجاح الإخباري - عندما هاجمت قوات الاحتلال مخيم جنين في صباح يوم الخميس الماضي (26/1/2023)، كانت التقديرات الإسرائيلية تتمحور حول عملية سريعة يتم خلالها اعتقال أو تصفية خلية فلسطينية مسلحة موجودة في أحد بيوت المخيم. وكانت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تعتقد أن دخول قوات إسرائيلية تحت وابل من إطلاق الرصاص والنيران الكثيفة سيدفع المسلحين الفلسطينيين للاختفاء والهرب، وبالتالي تتمكن القوات المهاجمة من تنفيذ مهمتها بسرعة وفي إطارها المحدد. ولكن المفاجأة كانت أن المخيم أفاق على هذا الاجتياح وتدافع المقاتلون إلى ساحة المواجهة، وتعرضت قوات الاحتلال إلى نيران كثيفة وكانت في حالة الخطر، كما استخدم المواطنون الحجارة والزجاجات الحارقة ضد القوات المقتحمة، التي أطلقت النار في كل اتجاه بصورة دموية وقاتلة، ما أدى إلى سقوط 10 شهداء. الأمر الذي أثار غضب الشعب الفلسطيني وقاد إلى ردود فعل قوية من أطراف دولية وإقليمية عديدة. ولكن الأهم كان رد فعل الشبان الفلسطينيين وخاصة خيري علقم الذي نفذ عملية إطلاق نار على مستوطنين في مستوطنة "نفيه يعقوب" في القدس الشرقية. وبعدها عملية الطفل القاصر في حي سلوان.
الادعاءات الأمنية الإسرائيلية تقول إن الخلية المستهدفة كانت قنبلة موقوتة، ولكن أوساط إسرائيلية وخاصة المحللين العسكريين قالوا أنه لم تكن هذه قنبلة موقوتة وهناك شكوك كبيرة في رواية الجيش. وهذا الجدل مهم لأن الحكومة الإسرائيلية قررت توسيع نطاق دائرة الدم بشكل كبير وفي وضح النهار لأنها تظن أنه بهذه الطريقة تزيد من قوة الردع وتمنع الفلسطينيين من تنفيذ هجمات ضد قوات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية. ولكن النتيجة كانت عكسية تماماً لما أرادت حكومة بنيامين نتنياهو- بن غفير- سموتريتش تحقيقه. وفجأة اكتشفت أنها في مأزق أمني كبير للغاية. فالقمع الدموي والإيغال في الدم الفلسطيني يقود إلى ردود أفعال عنيفة من الجانب الفلسطيني، وتزداد دائرة تأييد المقاومة المسلحة والانخراط في العمليات العسكرية. وأخطر ما يمكن أن تواجهه إسرائيل هو الأعمال الفردية غير المنظمة التي لا تستطيع أجهزتها الأمنية التنبؤ بها أو التعامل معها، خاصة في القدس وفي الداخل.
الإجراءات التي أعلنت الحكمة الإسرائيلية عن اعتزامها تنفيذها كرد على العمليات الفلسطينية تعبر في الحقيقة عن تخبط وعجز إسرائيلي عن التعامل مع الواقع القائم. وهي على ما يبدو لم تتعلم من التجارب السابقة. فأي عقوبة وأي تصعيد إسرائيلي لا يقود سوى إلى المزيد من التوتر وردود الفعل القوية المتناسبة مع حجم التصعيد. فكلما قتلت إسرائيل عدداً اكبر من الفلسطينيين خلقت دوافع وحوافز لعمل فلسطيني مقاوم وعنيف. وكل عمل فردي ناجح يتحول إلى عنصر إلهام للمحاكاة. والشيء الذي لم تستوعبه إسرائيل بعد هو أن المعالجات الموضعية لظواهر جانبية لا تحل المشكلة وأي نجاح لحظي يمكن أن ينهار بسرعة. فالمرض المزمن قائم ومنتشر. وطالما أن الاحتلال مستمر وجرائمه متواصلة، وحكومات إسرائيل وأسوأها الحكومة الحالية همها الأول هو استكمال المشروع الاستيطاني والقضاء على فكرة الاستقلال الفلسطيني القائم على انهاء الاحتلال، طالما أن هناك مقاومة فلسطينية، يمكن أن تتصاعد في مراحل معنية وتهدأ وتيرتها في مراحل أخرى.
المأزق الإسرائيلي المتفاقم لا حل عملياً له بدون خلق أفق سياسي يعتمد على الإقرار بتقسيم البلاد إلى دولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. والدعم الأميركي لإسرائيل بما في ذلك الالتزام بأمنها لا يمكنه أن يوفر لإسرائيل ملاذاً من الغرق في أتون الصراع. وحتى مساعدة أميركا في عملية التطبيع مع العالم العربي لن تساعد إسرائيل. وفي كل مرة تصعد إسرائيل عدوانها على الشعب الفلسطيني تساهم في إحراج العواصم العربية التي تربطها بإسرائيل اتفاقيات تطبيع.
اليوم يحاول نتنياهو أن يحقق المزيد من الاختراق في التطبيع مع العالم العربي وعينه على السعودية، التي أعلنت أنها لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل طالما لم يحصل تقدم فعلي باتجاه قيام الدولة الفلسطينية، على اعتبار أن أي نجاح اضافي في هذا المجال يحقق له إنجازاً سياسياً مهماً في ظل عجزه الأمني وفي ظل المشكلات التي يواجهها على المستوى الداخلي والمعارضة القوية التي تعصف باستقرار حكمه. فالهروب المثالي هو باتجاه العرب، وهذا ما وعد به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي ركز على دعم إسرائيل أمنياً وتوسيع دائرة تطبيعها مع العرب.
والدول العربية وخاصة دول الخليج التي تهتم بها إسرائيل كثيراً لأسباب اقتصادية تتحمل مسؤولية كبيرة في لجم العدوان الإسرائيلي والجرائم التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني. ونحن لا نطلب منها الكثير، فقط تجميد العلاقات مع إسرائيل في إطارها الراهن وعدم توسيعها وعدم القيام بأي عمل يساعد نتنياهو في تحقيق أي إنجاز سياسي على حساب الدم الفلسطيني. وفقط لا تكملوا عملية التطبيع ولا تستقبلوا نتنياهو أو أي من أعضاء حكومته العنصرية المتطرفة. وطالبوه بوقف عدوانه، فما نطلبه ليس كثيراً بل هو جزء بسيط من التضامن الأخوي مع شعبنا ضحية الاحتلال وجرائمه الدموية.