وكالات - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - من سخريات القدر الفلسطيني، ومن المفارقات المؤلمة في الواقع الفلسطيني أن يتمّ تزييف الوعي الوطني باسم «المقاومة» أو «الممانعة»، أو غيرها من تعبيرات ومصطلحات حالة «الهياج الديماغوجي» التي نشهد فصولها في بعض المحطات الكفاحية، أو المفاصل والمنعطفات التي يمرّ بها النضال الوطني، إن كان لجهة الوحدة الميدانية في هذا الكفاح، أو لجهة التماسك الوطني في المواجهات ضد الاحتلال ومستوطنيه، أو حتى زيادة منسوب المشاركة الشعبية في هذه المواجهات.
عندما نتحدث عن تزييف الوعي الوطني فإننا لا نتحدث، ولا نقصد حالة التنافس «المَرَضِيّة» التي اعتدنا عليها في الواقع الفلسطيني، إذ إن «التنافس المَرَضِي» في مراحل معيّنة كاد يُصبح جزءاً من «الفلكلور السياسي» الفلسطيني الذي تتوارثه «الأجيال» السياسية، إلى درجة أن التعايش مع هذا الإرث الخاص تحول في الواقع إلى نوع من «مسلّمات» الحالة الوطنية، أو وكأنه من طبيعة الأشياء ومعتاداتها.
لا.. ليس هذا هو المقصود بتزييف الوعي الوطني.
للأسف فإن المقصود هو التزييف الذي ينطوي على تلويث هذا الوعي وتسميمه، وهو يستهدف الشروخ والتصدّعات، وهو يرمي إلى الفتنة والوقيعة، كما يطمح ويخطط بوعي وإدراك كاملين إلى حرف الأنظار وتغيير كامل المسار في لحظة حاسمة، وعند مفترق كبير.
الموضوع له تاريخ، وله سياق، ويحتاج إلى أبحاث ودراسات، وله تجليات ملموسة منذ البيان الأول الذي صدر عن القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة الوطنية الكبرى في العام 1987 وحتى يومنا هذا.
دشّن «الإسلام السياسي» انشقاقه عن الحالة الوطنية، وخروجه عن ومن الأطر الوطنية آنذاك مستفيداً ومستثمراً من تركيز الاحتلال وأعوانه على كادر وقيادات وقواعد الفصائل الوطنية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية.
الحقيقة التي يهرب ويتهرّب منها بعض «المحسوبين» على «المقاومة» أو «الممانعة» هي أن الإقليم العربي وجد في هذا المولود «فرصةً» نادرة ـ حتى ولو مؤقّتاً ـ للضغط على المنظمة، وخصوصاً الحواضر الخليجية (بتعبير حسن خضر)، حيث وجد «الجميع» أن دعم المولود الجديد سيحسّن من فرص التعايش بين دول الإقليم وجماعات «الإخوان المسلمين» التي كانت تعيش في مرحلة صعود صاروخية، وكان قد أصبح لهذه الجماعات من المدّ والتأثير ما لفت انتباه أميركا نفسها والغرب كلّه، وهناك بالذات بدأت إرهاصات التفكير الأميركي والغربي بـ»الاستثمار» السياسي بـ»الإخوان».
بل وأدعي هنا أن من هناك قد بدأت الإرهاصات الأولية للمشروع الإسرائيلي «بسلخ» القطاع من خلال شق الحالة السياسية الوطنية وتوجيهه ضربة قاتلة لكامل المشروع الوطني، خصوصاً بعد الوحدة التي تجسّدت في مؤتمر الجزائر في العام 1988.
مقابل ذلك علينا أن نعترف بأن «الإسلام السياسي» قد شق طريقه الخاص، وقدم نفسه باعتباره مشروعاً «للمقاومة» البديلة عن الحالة الوطنية التي عجّلت واستعجلت في «الاستثمار» السياسي للانتفاضة، معتبرةً أن اتفاقيات أوسلو يمكن أن تشكّل اختراقاً سياسياً كبيراً «إنقاذياً» للمشروع الوطني ثبت فشله الكامل.
اتفاقيات أوسلو عززت من مكانة «الإسلام السياسي» في فلسطين، خصوصاً وأن هذه الاتفاقيات أثّرت سلباً على وحدة الشعب الفلسطيني، وخصوصاً على وحدة الداخل والخارج، وعلى وحدة الأراضي المحتلة مع الداخل الفلسطيني، وشرع «الإسلام السياسي» منذ تلك الاتفاقيات بالهجمات التي استهدفت منع «تقدمها» على الأرض بقدر ما هو ممكن ومتاح، ومستقطباً لجماهير غفيرة لصالح برنامج «المقاومة» أو برنامج البديل والموازي للمنظمة.
لم يتغير واقع صعود حركة «حماس» في الانتفاضة الثانية بالرغم من المشاركة الفاعلة من قبل الكلّ الوطني في هذه الانتفاضة، إذ تم تزييف الوعي الوطني وتلويثه وتسميمه بأن تم تقسيم الشعب، وتقسيم الحالة الوطنية إلى جزء «مقاوم» وجزء «مساوم»، وانجرّت وانجرفت الحالة الوطنية غالباً وراء هذا الوهم.
وفي هذه المرحلة بالذات بلغ التزييف للوعي الوطني أوجه بأن أصبحت حركة «حماس» تهاجم في كل المنابر الداخلية والخارجية التاريخ الكفاحي للمنظمة وتراثها الوطني كله، بل وتتنكّر لتضحيات الشعب وبطولاته، وتحول الشهداء إلى شهداء «حماس»، وتحوّل التاريخ الفلسطيني المقاوم للشعب الفلسطيني وكأنه بدأ مع حركة «حماس»، وتحولت حروب التحريض والإشاعات إلى رياضة يومية يمارسها «الإسلام السياسي» في فلسطين في عملية منظمة لتزييف الوعي الوطني، مع أن «الإسلام السياسي» هذا كان في «سُبات» كفاحي عميق لمدةٍ لا تقل عن نصف قرن، كان مشغولاً خلالها «بهداية» شعبنا إلى الإسلام وتخليصه من حالة «الشرك والكفر» التي يعاني منها!
أمّا المرحلة الثانية والخطيرة في تزييف الوعي الوطني والانقضاض على كل قيمه وتراثه وتقاليده الوطنية فقد كانت في الانقلاب الذي أقدم عليه «الإسلام السياسي» في قطاع غزة، شأنه في ذلك شأن كل منظمات «الإخوان» في المنطقة، عندما «انخرطوا» في محاولة تدمير البنى الوطنية في معظم البلدان العربية، وجرّ شعوب هذه البلدان إلى مستنقعات الطائفية والمذهبية والانقسامات السياسية والاجتماعية على أُسسٍ غير وطنية.
ومنذ حالة الانقسام التي طالت واستطالت وتحولت في الواقع إلى انفصال «واقعي» وحتى يومنا هذا، تجري على قدمٍ وساق عمليات منظمة ومتتالية ومتوالية لتزييف الوعي الوطني باعتبار أن سبب الانقسام، وسبب بقاء هذا الانقسام وتكريسه وتعزيزه هو «المقاومة»، وصراع هذه «المقاومة» مع معسكر «المساومة»، مع أن الصراع بات واضحاً لكل ذي عقلٍ وبصيرة أنه صراع على «السلطات»، وعلى المصالح الخاصة بـ «الإسلام السياسي» وتابعيه ومتبوعيه إلّا «من رحم ربّي».
تزييف الوعي الوطني حالة واعية ومدروسة ومنظمة لها أدواتها الفكرية والسياسية، وتستخدم فيها كل أشكال التأثير على الوعي من تحريض، وحروب إشاعات وافتعال الأزمات والفتن والصراعات.
وكلّما شهدت الحالة الوطنية الشعبية بدايةً لنهوض جماهيري، أو انخراط شعبي فعّال في مواجهة الاحتلال، وبدأت هذه الجماهير بتنظيم نفسها لبلورة وعي وطني متجدد تأتي علينا وتطلّ بصورة مباغتة تلك الأشكال من تزييف الوعي في اللحظة الحاسمة من هذا التبلور.
في لحظة تتزاحم فيها فصائل «المقاومة» و»الممانعة» على نفي أي مسؤولية لها عن إطلاق قذيفة هاون من القطاع تدخل إلى باحات وساحات الأقصى رُزمٌ من رايات «حماس» الخضراء، بعد انتهاء المعركة المباشرة، لتقول لنا، وفي وجوهنا إن علم فلسطين لا يعبّر عن مشروع «المقاومة» و»الممانعة»، لأن العلم الوحيد هو علم «الإسلام السياسي»، وليس علم فلسطين.
لم يكن ممكناً تزييف الوعي الوطني، أو لم يكن ممكناً أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من استباحة هذا الوعي لولا أن هناك فعلاً على الجهة المقابلة من يزيّف الوعي الوطني من ناحيته وعلى طريقته، أيضاً، لأن صراع «السلطات» قائم على قدمٍ وساق، ولأن فئات معينة من داخل مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن داخل المؤسسات الفصائلية تريد أن تحوّل الوعي الوطني إلى حالة استكانة، وإلى «مرافعات» سياسية أمام الولايات المتحدة والغرب، وليس إلى فعلٍ كفاحيّ ضد الاحتلال وأدواته وأعوانه.
ما يدعو إلى الحزن والأسى هو التنكّر لتضحيات الشعب الفلسطيني، بل هو تنكّر للتضحيات العظيمة التي قدمتها الفصائل نفسها، بما فيها فصائل «الإسلام السياسي» نفسه.
وما يدعو إلى الحزن والأسى أن يجري ذلك ونحن نرى ونشاهد كل الذين لا يرون، ولا يسمعون، ويولُّون وجوههم عن كل ما يجري، وكأنّ الانتقال من المنافسة المريضة إلى تزييف الوعي الوطني بات أو يكاد من «مسلّمات» الحالة الفلسطينية.