هاني المصري - النجاح الإخباري - إذا كان إجراء الانتخابات ممنوعًا حتى إشعار آخر، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة بعيدٌ بسبب الشروط التعجيزية، وثورة التغيير الشامل ليست على الأبواب؛ فهل تشكيل جبهة وطنية عريضة للإنقاذ الوطني هدفٌ قابل للتحقيق، جبهة تضم كل الفصائل والمجموعات والمؤسسات والحراكات والأفراد المؤمنة بضرورة التغيير الشامل والعميق للفكر والسياسة، ولطرق عمل القيادات، ونهجها، والمؤسسات الوطنية الجامعة، وأشكال العمل؟

إن التغيير العميق والشامل ضروري منذ سنوات طويلة، وبات أكثر إلحاحًا بعد التحوّلات والتغييرات العالمية السابقة للحرب في أوكرانيا، وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية.

على الفلسطينيين ألا ينسوا أن وعد بلفور قُدّم في ذروة الحرب العالمية الأولى، وإسرائيل قامت غداة الحرب العالمية الثانية، وتم توقيع اتفاق أوسلو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وفي مرحلة السيطرة القطبية الأميركية الأحادية.

تأسيسًا على ما سبق، يجب إجراء كل الاستعدادات والتغييرات اللازمة لمنع أن ندفع ثمنًا باهظًا قبل تشكل النظام العالمي الجديد أو بعده، أو أثناء المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم، التي ينهار فيها النظام العالمي، نظام القطب الواحد، ولم يرحل بعد، ويطل فيها النظام العالمي الجديد برأسه، ولم تتضح معالمه الكاملة.

من أخطر ما يمكن أن يحدث اتباع سياسة الانتظار، أو الرهان على الزمن أو على الحصان أو الأحصنة الخاسرة، والنوم على وسادة من الأوهام بأن النظام الجديد لن يولد أو سيكون أفضل، أو أقل سوءًا من نظام القطبية الواحدة. إنّ هذا الاعتقاد ليس صحيحًا بالضرورة، وإذا كان صحيحًا فلا يضمن تحقيق مكاسب للقضية الفلسطينية، فالشيء المؤكد والمضمون أنّ العالم الجديد شأنه شأن العالم القديم سيحترم الأقوياء الذين يحسنون قراءة الأحداث واستشراف المستقبل والعمل بشكل مبكر قبل أن تداهمنا الأحداث.

ولكي تأخذ فلسطين مكانها اللائق بها في خريطة العالم الجديد، وحتى تتمكن من تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه ومصالحه التي طال انتظارها، أو على الأقل تقليل الأضرار والخسائر، والحفاظ على القضية حية، وعلى تواجد الشعب الفلسطيني على أرض وطنه؛ لا بد من إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة ضمن رزمة شاملة تبدأ بتحديد ماهية التغيير المطلوب، وهل يشمل إسقاط القيادة الحالية، ونهجها، وما تستند إليه من شرعية حركة فتح، ودورها التاريخي، بوصفها مفجرة الثورة الفلسطينية في منتصف ستينيات القرن الماضي. ففتح قادت بفضل ما ميزها من فكرة عبقرية بأن الشعب الفلسطيني يجب أن يتحمل مسؤولياته ويقوم بدوره أولًا وفورًا من دون انتظار تحقيق دولة الخلافة الإسلامية أو الوحدة العربية أو انتصار الأممية، وكونها التزمت بهدف التحرير الكامل لفلسطين، وضرورة بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية التي تعرضت للطمس والإلغاء، واعتماد الكفاح المسلح كشكل وحيد في البداية، ثم رئيسي بعد ذلك، قبل تغيير المسار والوقوع في فخ اتفاق أوسلو.

تتعدد الآراء والاجتهادات حول هذا الأمر والتغيير المطلوب:

فهناك من يطالب بالإطاحة بالقيادة الرسمية وما تمثله، وإسقاطها وخلق بديل للمنظمة؛ كونها باتت عبئًا على القضية والشعب، وباتت عقبة أمام استمرار النضال وتقدمه، عبر الإطاحة الثورية، وهناك من يتبنى إجراء الانتخابات من أجل التغيير الشامل.

وهناك من يطالب بإجراء الانتخابات باعتبارها مدخلًا لإنهاء الانقسام وتحقيق التغيير الممكن.

وهناك رأي ثالث يرى أصحابه أن التركيز على الإطاحة والإسقاط من شأنه أن يمثل وقوعًا في الفتنة والفوضى والاقتتال الداخلي، انطلاقًا من أن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني يستهدف الفلسطينيين جميعًا، بمن فيهم دعاة المفاوضات والتوصل إلى تسوية، كما يظهر جليًا في عدم إعطائهم شيئًا حقيقيًا، بما في ذلك عدم تجسيد الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة حتى على جزء من فلسطين.

ويوفر هذا الموقف العدائي الجذري الصهيوني قاسمًا مشتركًا قادرًا على جمع الغالبية العظمى من الفلسطينيين، باستثناء أفراد وشريحة صغيرة وصلت إلى حالة من اليأس المطلق، والشعور بالهزيمة، وعدم الإيمان بوجود بدائل، ولا بالقدرة على عمل شيء سوى “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، أو “الحصول على أي شيء أفضل من خسارة كل شيء”.

وفي الحقيقة، إنّ أفراد هذه الشريحة إنما يدافعون عن مصالحهم ونفوذهم وثروتهم ووظائفهم التي حصلوا عليها بعد عقود من الاحتلال، وأكثر من أربعة عشر عامًا على الانقسام، الذي نمت في إطاره ما نسميها “جماعات مصالح الانقسام”.

الخلاصة مما تقدم، أن المطلوب تغييره وحتى إسقاطه، هو النهج المتخاذل والمتساوق مع الاحتلال ومخططاته الذي يكرّس الوضع الراهن، بحجة “ليس بالإمكان أبدع مما كان”، المعتمد من القيادة الرسمية والأفراد المصرّين على استمراره، وما يترتب عليه من إقصاء وهيمنة وتفرد وفساد وسوء إدارة، وتفريغ المؤسسات الوطنية في المنظمة والسلطة من مضمونها الوطني والديمقراطي، وتهميشها لصالح تحكم فرد، بمساعدة مجموعة من الأشخاص، بكل السلطات والصلاحيات، من دون رقيب أو حسيب، رغم أنه أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها.

والمطلوب ليس فقط إسقاط النهج السائد عند القيادة، بل تغيير أنماط العمل والتفكير لدى القيادات والفصائل الأخرى التي وصلت أيضًا إلى طريق مسدود رغم نياتها الحسنة، لذا لا يجب إعفاؤها من المسؤولية عما وصلنا إليه، فالمعارضة لم تبلور بديلًا متكاملًا، بل بقيت أسيرة قواعد اللعبة نفسها والحوارات والاتفاقات التي لا تنتهي، والتي تتمحور حول الاقتسام والمحاصصة الفصائلية، وتوزيع الهيمنة والتفرد بين فصيلين، وليس إنهاء أساسها من الجذور، لدرجة أصبحت المقاومة على أهمية الدور الذي تقوم به ليست إستراتيجية لتحقيق الأهداف الوطنية، بل إما إنها غاية في ذاتها؛ أي مقاومة من أجل المقاومة، أو مجرد ردة فعل على ما يقوم به الاحتلال، أو هدفها الأبرز خدمة السلطة في قطاع غزة؛ حيث تستخدم في غالبية الأحيان لتخفيف الحصار وتحسين شروطه، وهذا جيد، ولكنه يخصخص المقاومة.

لم يعد المشروع الوطني واضحًا، ولا أهدافه كذلك، ولم يطرح على طاولة الحوار الوطني حتى يكون المعيار الذي يحكم على النجاح أو الفشل؛ إذ بات عمليًا كأن المشروع الوطني بقاء الوضع على ما هو عليه، أو تحسينه إلى أن “يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”، وهذا في جوهره يعكس نوعًا من اليأس المتغطي بالحديث عن المقاومة والتحرير الكامل. فأهمية أي قيادة أنها لا تكتفي بوضع الأهداف البعيدة، وإنما توضع الأهداف القريبة والمتوسطة، والقابلة للتحقيق في كل مرحلة وإنجازها، بما يجعل تحقيق الأهداف البعيدة ممكنًا، وذلك بعيدًا عن الانتظار القاتل والغيبيات والينبغيات وإسقاط الرغبات على الواقع وإطلاق النبوءات التي تخدر الجمهور، وتجعله في الغالب متواكلًا أو متهورًا يندفع تجاه أعمال ليس وقتها لأن زوال إسرائيل قريب في هذا العام أو بعد حين.

هناك حاجة إلى الوعي والإرادة والقيادة والوحدة، حتى يتحقق التغيير، وهذا صعب ولكنه ليس مستحيلا، ولا يكون إلا من خلال بلورة رؤية شاملة تراجع التجارب الماضية، وتستخلص الدروس والعبر، خصوصًا تفسير لماذا لم ينتصر الشعب الفلسطيني رغم تضحياته الغالية ونضالاته العظيمة المستمرة منذ أكثر من قرن، وكيف يمكن أن ينتصر؟

لقد جُرّب التركيز على تشكيل الحكومة أولًا، سواء حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني، وعلى إجراء الانتخابات أولًا، وعلى الذهاب إلى عقد المجلس الوطني، أو تشكيل لجنة للتحضير لمجلس وطني توحيدي أولًا؛ وكلها فشلت، لأنها تجاهلت الجذور والأسباب العميقة لما وصلنا إليه، بما في ذلك وقوع الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي، وأشدد على كلمة المؤسسي، لأنها تعني، عمليًا، وجود قيادتين وسلطتين وبرنامجين؛ إذ إنّ من دون الاتفاق على مشروع وطني واحد يجسد القواسم المشتركة ويستند إلى ميثاق وطني لا قيمة للسلطة، ولا للانتخابات، ولا لأي شيء، فالاتفاق على المشروع الوطني الذي يحدد الأهداف والمراحل، وأشكال العمل والنضال، وطبيعة المرحلة التي نمر بها، والتي يمر بها العالم والإقليم، وهل نحن في مرحلة هجوم إستراتيجي أم دفاع أم دفاع إيجابي إستراتيجي، هو القاطرة المفقودة.

فكما لاحظنا، قادت حركة فتح الشعب الفلسطيني لأنها طرحت فكرة، وحددت هدفًا وشكل نضال، وبادرت إلى العمل من دون انتظار، واستفادت من هزيمة حزيران على أساس “رب ضارة نافعة”، فكانت الهزيمة وما حصل بعدها من دعم النظام العربي، وخصوصًا الناصري لها، ومعركة الكرامة، كانت بمنزلة الانطلاقة الثانية والأكبر لها، التي جعلتها ومعها بقية فصائل الثورة تقود منظمة التحرير؛ أي قادت على الأرض قبل أن تقود بالمؤسسة.

وهذا ما يجب أن يكون، فإذا كانت الأبواب مغلقة أمام الانتخابات وإنهاء الانقسام وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، وكذلك أمام تغيير السلطة لكي تستجيب لمصالح الشعب الفلسطيني وأهدافه؛ يجب خلق الحقائق على الأرض، وتجسيد الوحدة الميدانية في مقاومة الاحتلال، والعمل من تحت لفوق، وعدم الاكتفاء بتسجيل المواقف للتاريخ، ومطالبة القيادة واستجدائها لفعل ما هو ضد مصالحها واستمرار هيمنتها، وإذا أقيمت الجبهة ستقدر على إيجاد بيئة إقليمية ودولية تساعدها على إنجاز أهدافها.

لا يعقل أن يتم إلغاء الانتخابات التي سجّل من أجل المشاركة فيها 93% من الذين يحق لهم حق الاقتراع، وترشحت لخوضها 36 قائمة، ولم تنظم ردة فعل بأشكال متعددة بمستوى اخطورة هذا القرار، حتى مظاهرة “عليها العين” لم تنظم احتجاجًا على مصادرة حق الشعب في الاختيار، في ظل وجود أغلبية سياسية وشعبية عارضت عقد المجلس المركزي بصورة غير شرعية، سياسيًا وقانونيًا ووطنيًا، ومعارضة التساوق مع السلام الاقتصادي، ولم نشاهد ردة فعل تعبر عن حجم الغضب والمعارضة، حتى ولو من قبيل تنظيم مظاهرة “عليها العين” اعتراضًا على ذلك؛ فهذا يعني أن المعارضة هي الأخرى مأزومة وبحاجة إلى إصلاح وتغيير.

وإذا كانت المعارضة تجمعها قواسم مشتركة واسعة، فلماذا لم تتمكن من تجسيد عمل مشترك، فهذا يعني أن هناك تغليبا للمصالح الفئوية وخللًا لديها يجب أن تصلحه قبل رمي كل المسؤولية على القيادة الرسمية.

وهنا، تتحمل حركة حماس بوصفها الفصيل الأكبر ضمن المعارضة، وكونها تقود بشكل انفرادي السلطة في قطاع غزة؛ المسؤولية عن عدم تقدّم مسألة بلورة جبهة وطنية لا تكون بديلة ولا موازية لمنظمة التحرير، وإنما تسعى لإنقاذها عبر الضغط السلمي السياسي والجماهيري، إلى أن تتم إعادة بنائها؛ حيث نكون أمام منظمة التحرير الثالثة: الأولى كانت بزعامة أحمد الشقيري، وتحت الرعاية العربية الرسمية؛ والثانية، بزعامة ياسر عرفات بقيادة حركة فتح؛ والثالثة، يمكن أن تجسّد شراكة حقيقية وقيادة جماعية على أسس وطنية وديمقراطية.

فلا تزال حركة حماس تنتظر الاعتراف العربي والدولي بها والاقتسام مع حركة فتح، سواء من خلال الانتخابات، أو الاتفاق الثنائي؛ بدليل أنها تتذبذب بين المشاركة والمغالبة بين الدعوات للتوافق على إجراء الانتخابات، أو للتوافق على القيادة الانتقالية، وتعيين مجلس وطني مؤقت. وتستطيع “حماس” إقناع الفصائل والمؤسسات الأخرى بالانخراط في الجبهة العريضة إذا قدّمت ما يكفي من التعهدات والإجراءات بأنها لن تستبدل هيمنةً بهيمنة، ولا تفردًا بتفرد، وأنها معنيةٌ حقًا بإنهاء الانقسام وإنهاء سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، باعتبار ذلك جزءًا من اتفاق يضمن أن تكون شريكة كاملة في مختلف مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني. فحماس تستطيع أن تقدم نموذجًا للشراكة في الحكم يحترم حقوق الإنسان وحريّاته، والحكم الرشيد، والمساءلة والمحاسبة في القطاع، وفي عقد الانتخابات في القطاعات والمستويات المحلية بانتظام.

وتتحمل الفصائل والشخصيات الأخرى قسطها من المسؤولية؛ كونها تنتظر هي الأخرى نجاح حوارات المصالحة، تارة في القاهرة، وتارة في إسطنبول، وتارة ثالثة في الجزائر، مع إدراكها أن العلة فينا أولًا وأساسًا، وليس في الوسطاء، وتخشى من العقوبات من السلطة، وهي لا تبادر إلى تقديم المثل، ولا تجرؤ على الاعتماد على نفسها بعيدًا عن المخصصات والوظائف والمكاسب والحبل السري الذي يربطها بالنظام المأزوم كليًا.

لن يحرك الجماهير للميدان الدعوة لإنهاء الانقسام فقط، ولا لإجراء الانتخابات فقط، ولا لتفعيل أو توحيد أو إعادة بناء المنظمة فقط، وإنما وجود أمل كبير بتغيير جوهري ملموس لمستوى المعيشة والحقوق المدنية، ويحقق الاهداف الوطنية عن طريق وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، والمؤسسة الوطنية الجامعة، والقيادة الواحدة، وهذا لن يكون إلا من خلال اعتماد الرزمة الشاملة التي تبدأ بالمشروع الوطني الديمقراطي انطلاقًا من الميثاق الوطني، وبالبرامج السياسية والحياتية الواقعية، بعيدًا عن التهور والتطرف والتخاذل والاستسلام، ولا تنتهي إلا بإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات، وبإعادة بناء المنظمة، وتغيير السلطة، وإجراء الانتخابات على كل المستويات والقطاعات.

وعندما يتم خلق حقائق جديدة على أرض الواقع، وتكبر رويدًا رويدًا، إلى أن تفرض نفسها على النظام السياسي وعلى القيادة، كارهة أو راغبة؛ يحدث التغيير المنشود، ويتم إنقاذ القضية وأداة تجسيدها المنظمة.