عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - قبل الإجابة عن هذين السؤالين، علينا ـ كما أرى ـ أن ندقق في بعض المفاهيم التي تتصل بهذه الحرب، وكذلك حول المفاوضات التي يمكن أن تبدأ عند درجة معينة من تطور أحداث هذه الحرب.
لو رجعنا إلى الغالبية الساحقة من المصادر الأمنية والعسكرية، البحثية والإعلامية، المؤيدة لروسيا والمناهضة لها، المؤازرة لأوكرانيا أو المتحفّظة على بعض استفزازاتها، التي ورّطت أوكرانيا، والتي لا تهدف إلى توريطها، أو إلى المزيد من هذا التوريط.. كلها تؤكد أن الجيش الأوكراني يتركّز في مواجهة «انفصاليي» الدونباس، عدةً وعتاداً. تقدر القوات الأوكرانية في هذه الجبهة ما يتراوح بين 100 ألف و150 ألف جندي، كما أن القسم الأكبر من مدفعية ودبابات الجيش الأوكراني يتركز في هذه الجبهة.
أخطأت أوكرانيا خطأً استراتيجياً كبيراً بتركيز جيشها في هذه الجبهة، لأن هذا الخطأ الكبير «أكّد» لروسيا نوايا أوكرانيا المستقبلية، و»فسّر» لها السرّ في تملص أوكرانيا المتواصل على مدى ثماني سنوات من الالتزام باتفاقية «مينسك»، إضافة إلى ما فسّره هذا السلوك من حقيقة المناورات المكثفة للغاية التي قامت بها القوات الأوكرانية مع حلف «الناتو» في السنتين الأخيرتين، ولعلّ الوثائق الأصلية التي حصلت عليها الاستخبارات الروسية حيال النوايا والسلوك الأوكراني ستكشف بالكامل عن قضايا أكبر وأخطر من ذلك.
وعندما يفقد أي جيش تقليدي كامل غطائه الجوي، وعندما يفقد الجزء الأكبر من قواعده العسكرية، وعندما يفقد خطوط المواصلات والإمدادات، أو يجد صعوبات كبيرة في استخدامها، فإن مفهوم الحرب يصبح مختلفاً، بل يتحول إلى مفهوم مجازي في الغالب. ولأن روسيا لا تهدف إلى احتلال أوكرانيا أو إلى البقاء على أراضيها، ولا تهدف إلى تدمير الجيش الأوكراني أو مقومات الدولة الأوكرانية، وطبعاً ليس في نيتها إلحاق الأذى القصدي بالشعب الأوكراني، فقد صممت هذه الحرب من قبل القيادة العسكرية والسياسية الروسية على هذه الأسس بالذات.
لا يحتاج الأمر إلى خبرات عسكرية خاصة، ولا حتى عامة لقراءة خارطة هذه الحرب.
القوات الروسية دمّرت القواعد ومراكز السيطرة والتحكّم، وسيطرت على الجو، وتجنّبت ما أمكنها الدخول في المدن إلا بعد انسحاب القوات الأوكرانية منها، وعدّلت من الزاوية التكتيكية في بعض خططها الميدانية بسبب تدمير بعض الجسور، ما اضطرها إلى الالتفاف حول تلك الجسور أو بناء جسور حديدية عسكرية متحركة لعبور القوات.
تُحكِم القوات الروسية، الآن، السيطرة على الجزء الأكبر من شرق ووسط أوكرانيا، ولم تعد القوات الأوكرانية سوى حاميات عسكرية مقلّصة داخل بعض هذه البلدات والمدن.
بمجرد سقوط مدينة ماريوبل المطوّقة بالكامل سيتم اتصال القوات الروسية، أي «الالتقاء» بين قواتها في «القرم» وبين مقاتلي الدونباس، وسيتم فرض طوقٍ كاملٍ على أوديسا، وتكون هذه الحرب قد انتهت عملياً في كافة المحاور الرئيسية، ولا يتبقى سوى الكتلة العسكرية للقوات الأوكرانية على جبهة الدونباس، بعد أن تكون القوات الروسية قد طوّقتها بالكامل وقطعت عليها الطريق للانسحاب غرباً، وحصرتها بين القوات الروسية في الوسط وبين تخوم الحدود الإدارية لإقليم الدونباس وتأجيل البت بمصيرها إلى المفاوضات السياسية ما أمكن.
«بشائر» المفاوضات بدأت عملياً، وعجلة هذه المفاوضات ستدور سريعاً في القريب العاجل، والقاعدة السياسية لهذه المفاوضات أصبحت تتحدد معالمها شيئاً فشيئاً.
وبهدف تسهيل الأمور على «القيادة الأوكرانية» أعادت روسيا تأكيدها أمس، أن ليس لدى روسيا هدف محدد بتغيير هذه القيادة إلا إذا قامت أوكرانيا نفسها بهذا التغيير!
روسيا لا تريد أوكرانيا من دون جيش، أو من دون دولة، أو من دون قيادات من أيّ نوعٍ كان، لأنها تعرف أنها ستجلس إلى المفاوضات في أقرب وقت ممكن، وهي تريد أن تصل إلى هذه المفاوضات، لكن ليس قبل محاصرة أوديسا بالكامل، وهو أمرٌ لم يتم بعد، وليس قبل إطباق الحصار على كييف العاصمة بالكامل، أيضاً، وليس قبل «التقاء» القوات الروسية ببعضها البعض في طول محيط نصف الدائرة التي رسمتها على الأرض الأوكرانية، لأنه عند ذاك فقط يمكن «إقناع» المفاوض الأوكراني بالشروط الروسية.
الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب عموماً يخوضون حرباً ضروساً في وسائل الإعلام يرتكبون من خلالها [جريمة حرب إعلامية ضد الإنسانية]، لأنهم حاولوا إغواء القيادة الأوكرانية باستمرار هذه الحرب، تماماً كما خدعوها، عندما حرّضوها ضد روسيا، ووضعوا لها المخططات الكاملة والمتكاملة لتهديد أمنها القومي بصورة يستحيل معها قبولها من الجانب الروسي، وعندما أوهموها بأن الغرب يقف كله معها، دون أن يدرك القسم الأكبر من القيادة الأوكرانية، والقسم الأكبر من الشعب الأوكراني أن أوكرانيا ليست هي همّ الغرب، ولا هدفه، حتى ولو أُحرقت ودُمرت، لأن هدف الولايات المتحدة والغرب هو روسيا وليس أوكرانيا.
والحقيقة أن حالة الهياج الغربية في العقوبات وفي التضليل الإعلامي هي انعكاس مباشر لمعرفة الغرب أن الخديعة الكبرى يستحيل التستر عليها بأقل من هذا الهياج الذي أخرج الغرب عن كل منطق، وأصبح يدفع بالأمور إلى أقصى حدود ما يسمى بحافة الهاوية.
على كل حال، بوادر القاعدة أو القواعد السياسية للمفاوضات المرتقبة بدأت بالظهور إلى سطح الأحداث وخرائطها، إذ إن القيادات الأوكرانية ـ على ما يبدو ـ أصبحت تُلمح إلى استعدادها «لمناقشة» قضية الدونباس وقضية القرم، وأنها لم تعد متمسكة كما كانت متمسكة قبل هذه الأيام بالدخول إلى حلف «الناتو»!
ولذلك فإن هذه الحرب بالمعنى الذي حاولنا شرحه وتوضيحه هي على أبواب التوقف، والمفاوضات على قواعد واضحة ومحددة من الشروط الروسية لتوقفها ستبدأ في أقرب وقت.
خديعة الولايات المتحدة لأوكرانيا تنطبق عليها، وينبثق منها مقولات تكاد تكون جديدة في علم السياسة، ومنها على سبيل المثال (المخدوع) السعيد. القيادة الأوكرانية تنطبق عليها هذه المقولة، لأنها أرادت أن تنخدع لعلّ وعسى أن «تستعيد» القرم، وتنهي طموحات الجمهوريتين في الدونباس وتحمي نفسها كقاعدة متقدمة لـ»الناتو»، وربما الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أيضاً.
أما [المخدوع] الحزين فهي أوروبا، والمخدوع الذي سيعاني من هذا الحزن حدّ الاكتئاب فهي ألمانيا، إذا لم تصحُ من غفوتها في أسرع وقت، لأنها هي الهدف الثاني لهذه الخديعة الأميركية، ليس فقط لأنها القاعدة الأكبر والأصلب للاتحاد الأوروبي، بل لأنها ستصبح عديمة الأهمية في هذا الاتحاد عندما يتحول الاتحاد نفسه إلى مجرد تابع ذليل للولايات المتحدة ولبريطانيا من خلفها، وبذلك تكون أوروبا قد فقدت شخصيتها وكيانياتها، وتحولت إلى ملحق من ملاحق السطوة الأميركية التي تسابق الزمن وتعاند منطق التاريخ كله، وتغامر بكل صديق وحليف، وتهدد كل عاقل طالما أن ذلك يحقق لها المصالح الخاصة بها وليس غيرها مطلقاً.