عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - يعرف كل متتبع لإستراتيجات الولايات المتحدة في تحديد دائرة «الأعداء» الذين يشكلون «الأخطار» عليها من حيث الدور والمكانة، والتي تترجم في هيئة تحديات عسكرية واقتصادية لمنظومات السطوة والنفوذ والسيطرة الأميركية، وفي هيئة آليات تحكّم غربي شامل لتأمينها أن هذه الاستراتيجيات لها ثوابتها التي لم تتغير على مدى عقود متصلة.
وبالعودة إلى كل الوثائق الرسمية لـ «البنتاغون»، وكذلك لوزارة الخارجية الأميركية فإن روسيا والصين، أو الصين وروسيا هما الثابتان الوحيدان في هذه الوثائق منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ناهيكم طبعاً أنهما كانا  الثابتين الوحيدين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.
ويعرف كل مراقب مثابر أن تحديد الأولوية بين روسيا أو الصين كان يحدث جرّاء تطور «الخطر» القادم من أحدهما في مرحلة معينة. لم تكن روسيا «الخطر» الأكبر على الولايات المتحدة في الفترة الفاصلة بين سقوط الاتحاد السوفياتي وبين بداية «الصحوة» الروسية، وشروعها في إعادة بناء اقتصادها وجيوشها، وبناء أحلافها الجديدة وتوسيع دائرة تحالفاتها في المحيط الروسي المباشر، وفي المحيط الأوسع والأبعد. في تلك الفترة بدأ التنبّه الأميركي «للصعود» الصيني، وبدأت بتحضير نفسها لما هو قادم من الشرق.
وعلى عجلٍ فبركت الولايات المتحدة عدوّاً جديداً في الشرق الأوسط من خلال «غواية» صدام لكي تشيطنه فيما بعد، وتنقضّ عليه، مخلّفةً بلداً من أعرق بلاد العالم في حالة من الدمار والشلل، وأسلمته لطوائف متناحرة لكي تتناهشه وتمزقه دون أدنى رحمة.
وفبركت بالترافق مع هذا كله عدوّاً آخر هو «الإرهاب»، وشنت ضده حرباً شاملة كان من نتيجتها تدمير أفغانستان والصومال، واستكملت هذه الحرب بالإشراف على «ثورات الربيع العربي» لكي تنهي سورية وليبيا واليمن مستغلةً توق الجماهير العربية للحرية والكرامة بعد سنوات طويلة من حكم الاستبداد والاستعباد والفساد لأنظمة كثيرة في العالم العربي، بعد أن ضمنت لجانبها انحياز «الإسلام السياسي» لهذه الاستراتيجية في ظل غياب أو تغييب الحركات الوطنية الديمقراطية التي كان يفترض أن تكون هي، وليس غيرها قيادة هذا «الربيع»، بعيداً عن الاستراتيجية الأميركية والغربية.
أوقفت مصر «الزحف» الأميركي لتمزيق البلدان العربية، واستعادت سورية قوتها دون أن تبسط كامل سيادتها بعد، وبدأ العراق مسار الخروج من شرنقة الطائفية، ولم يتمكن الغرب حتى الآن من «الإجهاز» على ليبيا، وأصبح يواجه أزمةً في إعادة السيطرة عليها، دون أن يستطيع اليمن حتى الآن الخروج من الحرب المدمّرة التي يعاني منها.
في غمرة الانشغال الأميركي بحروب التمزيق في الشرق الأوسط ودخولها في الأزمة الاقتصادية، كانت روسيا قد أنجزت مراحل متقدمة من استعادة عافيتها الاقتصادية، ووصلت الصين إلى مشارف الخطر الداهم على المكانة الاقتصادية للولايات المتحدة.
ومن هذه النقطة بالذات بدأت مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأميركية، وكذلك الغربية تدقّ نواقيس الخطر، واستجاب أوباما بسرعةٍ قياسيةٍ لهذه الأصوات، وبدأ بالإعلان عن استراتيجية الولايات المتحدة للتوجه بما يشبه الاستدارة السريعة لمواجهة الصين والتوجه إلى آسيا، وكان من جراء هذه الاستدارة أن أقرّت الإدارات الأميركية المتتالية الانسحاب من الشرق الأوسط للتفرغ الكامل لمواجهة الصين.
الاقتصاد الروسي لم يكن يهدد المكانة الأميركية ولا الغربية، فهو لا يحتل سوى المرتبة العاشرة أو الحادية عشرة في إطار الاقتصادات العالمية، لكنه اقتصاد «خطير» على الاستراتيجية الأميركية لأنه يتحكّم بأكثر من ثلث الطاقة العالمية على مستوى الاحتياطات والإنتاج والتصدير كمعدل وسط. كما يستند إلى مخزون استراتيجي مطلق التفوق من زاوية المعادن الأخرى، كما أن الصناعات العسكرية متطورة للغاية وهو الأمر الذي يعني أن الموارد المالية يمكن أن تحول الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد منافس عند درجة معينة من توفرها، طالما أن التكنولوجيا لديه وصلت إلى ما وصلت إليه في المجالات العسكرية، لكن الأخطر والأهم بالنسبة للولايات المتحدة هو التشابك والتداخل بين الاقتصاد الروسي والاقتصاد الأوروبي، ووصول الأمور إلى درجة (خطرة جداً من الاعتمادية الأوروبية على مصادر الطاقة الروسية).
وبالمقابل فإن الصين التي بدأت بالتعملق الاقتصادي منذ بداية القرن الواحد والعشرين، ازدادت قوتها العسكرية بصورة «خطرة» للغاية من وجهة النظر الغربية، اعتماداً على الصناعة العسكرية الروسية، حيث أن أكثر من 75% من مشتريات الصين واستيرادها العسكري هو من السوق الروسية.
هنا وصلنا إلى كيف ولماذا استدارت أميركا و»هربت» من الشرق الأوسط ثم من أفغانستان، ولماذا بدأت بتحريك تايوان وأوكرانيا في مواجهة الصين وروسيا.
أما لماذا بدأ الأمر بروسيا وليس بالصين فإليكم الأسباب:
أولاً: لا تمتلك الولايات المتحدة قدرات خاصة في جرّ الصين إلى مواجهة عسكرية بالوكالة، لأن تايوان بمقاييس الجغرافيا السياسية لا تشكل حيزاً مناسباً على الإطلاق، في حين أن أوكرانيا تتمتع بهذه الميزة، وتكاد تكون مثالية.
ثانياً: تايوان هي أرض صينية لا مجال لأن تتخلى عنها الصين، ولا مجال للغرب أن ينكر كونها أرضاً صينية، في حين أن «القرم» والدونباس يعتبرهما الغرب ارضاً أوكرانية.
ثالثاً: ليس من مصلحة أوروبا تحديداً، ولا حتى الولايات المتحدة أن تفتح الصراع مع الصين عسكرياً نظراً لضخامة حجم التشابك الاقتصادي الغربي معها، ويستحيل الآن أن يتمكن الغرب فتح هذا الصراع، خصوصاً وأنه يخرج بالكاد من تبعات وآثار جائحة «كورونا» على الاقتصادات الغربية، في حين أن مثل هذا التشابك ليس بهذه الضخامة في الحالة الروسية. كما أن هذا التشابك نفسه يشكل «خطراً على المصالح المباشرة للولايات المتحدة، لأنه سيعني خروج ألمانيا أولاً ثم فرنسا، فباقي الدول الكبيرة من تحت مظلة التحكّم الأميركية.
رابعاً: إن جرّ روسيا إلى حرب في أوروبا سيعيد إنعاش المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، وإعادة إنعاش قطاع النفط فيها بعد أن «تتحرّر» ولو بالتدريج من اعتمادها على روسيا.
خامساً وأخيراً: فإن كسر الحلقة الروسية سيؤدي إلى توازن جديد تكون الصين بموجبه قد خسرت جناحاً أو خاصرة لن تقوى على تعويضها أبداً.
الولايات المتحدة وضعت الرئيس بوتين وروسيا أمام خيار وحيد [إمّا أن تدخل الحرب التي خططنا لها ونصبنا لك فيها «الفخّ»، وإمّا أنك سوف تختنق وتموت]، وذلك لأن الغرب كان يعي تماماً أن العملية العسكرية في أوكرانيا ستصبح والحالة هذه حتمية، وان لا مجال أمام روسيا من وجهة النظر الاستراتيجية الخاصة بالأمن القومي الروسي [الوجودي] تحديداً سوى الدخول إلى أوكرانيا ومحاولة حلّ هذه الأزمة.
باختصار، هذه الحرب من وجهة نظر الغرب هي بهدف «تدمير» الاقتصاد الروسي، وبالتالي تقليص حجم المخاطر العسكرية على التوازن الدولي الجديد، والحرب هي لإجبار الغرب على الجلوس على طاولة المفاوضات لتأمين الأمن القومي الروسي تحديداً وبالذات من وجهة النظر الروسية.
الغرب لا يملك في هذه الحرب سوى تحويل العقوبات «القديمة» القائمة منذ 2014 إلى حربٍ اقتصاديةٍ شاملةٍ، لأن أقصى ما يمكن أن يذهب إليه، أو حتى يطمح إليه هو «مشاغلة» القوات الروسية ببقايا الجيش الأوكراني، وبواسطة المتطرفين الأوكرانيين، ودعمهم بالمرتزقة وبالأسلحة «الفتّاكة» كما يقولون عنها.
والسلاح النووي المالي أي الشبكة المالية الدولية للتحويلات المالية (سويفت) لا تشمل قطاع الطاقة، وهو القطاع الأهمّ بالنسبة لروسيا، ويوجد له بدائل دائمة على المدى المتوسط والبعيد، وبدائل مباشرة مؤقتة الآن، وروسيا لا تحتاج بصورة ملحّة للتكنولوجيا الغربية في «صناعات المعرفة» لأن الصين لديها ما يكفي ويفيض، وأسواق الهند والصين والباكستان والبرازيل والأرجنتين وإيران، وحتى تركيا والأسواق العربية أو بعضها لن تغلق أمام الاقتصاد الروسي، وهناك ثلاثون دولة أخرى ستفلت من نظام العقوبات الأميركية. لكن الأهمّ من ذلك كله أن الخسائر التي سيتكبدها الغرب على المديين المباشر والمتوسط لن تكون أقل من تصنيف [الخطرة للغاية] كما قال صندوق النقد الدولي، وستحدث خلخلات اجتماعية في الولايات المتحدة وخلخلات اجتماعية وسياسية في أوروبا بعد أن تنقشع موجة الشعبوية والعنصرية التي تحاول شيطنة روسيا و»تنميطها»، وبعد أن تحرك روسيا آلياتها «الخاصة» لإعادة تأثير العقوبات على الاقتصادات الغربية.
هذه حرب خسرتها الولايات المتحدة منذ الآن، وستسرع من تحقيق الأهداف الاستراتيجية الروسية منها، وستضع الصين في الموقع والمكان الصحيحين، ولن تكون «وحدة» الغرب التي يتغنّون بها الآن سوى مرحلة عابرة وانتقالية نحو النظام العالمي الجديد. ليس لديّ إثبات، لكنني على يقين أن الصين كانت على خط الحرب قبل وقوعها، حتى وإن لم تكن تعرف بتوقيتها الدقيق.