نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - ينحدر أجداد والدتي ـ رحمها الله ـ من بلدة «بُرقة».
سألتها مرّةً عن هذه البلدة فقالت:
والله «يَمّا» على خُرّاف ستّك هاي بلدة كبيرة، وأراضيها واسعة، وغلّتها بالقناطير، بسّ أهلها «يَمّا» زعلهم عاطل!
أحفظُ، وأحتفظُ عن، ومن والدتي بالكثير من القصص عن تاريخ هذه البلدة وسكانها، خصوصاً أن للحجة ذاكرةً استثنائية، ولها أسلوبها السلس والشيّق في السرد وربط الأحداث، إضافةً إلى اعتدادها بهذه البلدة، وافتخارها بعائلتها، (آل سيف). وتحفظ عنهم العشرات من الأحداث المهمة في الشأن الوطني، وعن ثورة الـ(36) على وجه التحديد.
تذكّرت كلامها خلال الأيام الأخيرة ونحن نتابع بطولات أهل القرية، والتي هي واحدة من أكبر بلدات محافظة نابلس، في التصدي للمستوطنين سوياً مع أهالي القرى المجاورة مثل سبسطية (وهي قرية لها تاريخ عريق) وبزّاريا وأخرى كثيرة، بمشاركة مئات الشباب الفلسطيني، والعشرات من قيادات وكوادر المقاومة الشعبية النشطة في فلسطين.
تذكّرت قولها حول «الزعل العاطل»، وراجعتُ واسترجعتُ شريط سرديّاتها عن الثورة الكبرى وعن بطولات أهل البلدة.
تتعرّض «بُرقة» وكل القرى المحيطة على مدى سنوات طويلة لهجمات المستوطنين، وبصورة همجية ووحشية تكشف عن أطماع هذه القطعان ومخططاتهم، وبما يُنذر بأخطار محدقة وكبيرة على أهل هذه القرى وعلى مصادر رزقهم، وعلى مستقبل وجودهم فيها.
وكما في السابق فقد تصدى أهل هذه القرى للمستوطنين ببطولة شاهدها العالم كله، إلى أن وصلت الأمور إلى تحشيد المستوطنين لأكثر من ستمائة مسلّح بالرشاشات وأيديولوجيا القتل والإجرام، منهم أكثر من مائتي مسلّح على مفرق «دير شرف» وحده.
جاء الشبان من كل مكان لنجدة القرى الباسلة، واضطرت قوات الاحتلال «لإلغاء» موكب الحافلات التي كانت ستقلّ المستوطنين إلى «حومش» في إشارةٍ واضحة إلى الرعب الذي دبّ في قوات الاحتلال من مشهد البطولة والتصدي في «برقة» وفي سبسطية، إلى الحدّ الذي وصل ـ حسب الوسائل الإعلامية الإسرائيلية نفسها ـ بهذه القوات لطلب المزيد منها، بل والحديث عن ضرورة استدعاء فرقة جديدة للعمل في الضفة في ضوء قراءة قيادة الفرقة العاملة في الضفة بعدم القدرة على «ردع» الأعداد الكبيرة من المشاركين في معركة الدفاع عن بُرقة وسبسطية على حد سواء.
هذه المؤشرات كلها تُبشر بولادة مرحلة جديدة من المقاومة الشعبية، أعلى وأرقى من كل البطولات السابقة في كفر قدوم وبلعين ونعلين وبيتا، وغيرها وغيرها، وذلك بالنظر إلى المستوى الذي بلغته الهجمات الاستيطانية كمّاً ونوعاً، وبالنظر إلى الدور الجديد والخطير الذي بات يلعبه المستوطنون كأداة متقدمة وفاعلة من أدوات الاحتلال، وكمنظومة مسلّحة ومدرّبة للقيام بالمهمات القذرة للاحتلال، وكقوة «ردع» مباشرة للسكان الفلسطينيين لمجرد دفاعهم عن أرضهم وممتلكاتهم.
من المؤسف حقاً أن البعض ما زال يشكك في جدوى هذا الشكل الكفاحي لأسباب تعود «له»، ولكن يعود لنا أيضاً فهم خلفيتها وأهدافها، وأن البعض ما زال ينظر إلى هذا الشكل بصورة استعراضية وموسمية، وأن البعض الآخر يكتفي بالتغني به عن بعد و»يستبسل» في المشاركة الافتراضية فيه، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وأنا أتحدث عن فصائل وليس عن أفراد أو مجموعات.
هذا الشكل الكفاحي لا يمكنه أن يكون مؤثراً وفعالاً طالما أنه لم يتحول إلى حالة وطنية شاملة، وإلى نمط حياة للفلسطينيين في الأرض المحتلة، وطالما أنه ليس شكلاً «التحامياً» من مفهوم المقاومة والتصدي بكل المعاني الوطنية، التعليمية والصحية والتنموية، وكذلك الوعي الوطني، والقدرات الكفاحية وتنظيم وإدارة هذه العملية الوطنية الشاملة.
وهذا الشكل الكفاحي لا يمكنه أن يلغي، وليس مطلوباً أن يلغي كل الأشكال الكفاحية المشروعة الأخرى، طالما أن هذه الأشكال تأتي في إطار ما يشرّعه القانون الدولي، وذلك لأن كفاحنا الوطني لا يمكنه ـ إذا استهدف المصلحة الوطنية العليا لشعبنا ـ أن يتصادم مع هذا القانون في ظل الواقع الذي نعيش، وفي ظل الاحتياج الحيوي للانسجام مع هذا القانون.
يضاف إلى كل ذلك أن المقاومة الشعبية بالمفهوم الشامل المستدام توفر لنا في الظروف التاريخية الملموسة لطبيعة الصراع ومعطياته القائمة على أرض الواقع في هذه المرحلة، وفي ظل انسداد الأفق السياسي، وفي ظل حالة الانقسام التي فشلنا حتى الآن بإنهائها وتجاوزها الشكل الذي يوفر الوحدة الميدانية لشعبنا، وهو الشكل الذي يحشد من حولنا أكبر تأييد دولي وعربي وإقليمي ليس على المستويات الرسمية (فهذه مسألة لها أدواتها السياسية والدبلوماسية ومعادلاتها ومصالحها الشائكة) فحسب، وإنما التأييد الشعبي أساساً، وهو ما يشكل بالنسبة لنا رافعة كبيرة ستحدث فرقاً هائلاً في مستوى الدعم المتزايد، وعلى المستويات الرسمية أيضاً، حتى ولو كان لاحقاً.
كما أن هذا الشكل هو الشكل الأكثر تأثيراً في المجتمع الإسرائيلي نفسه، وهو الشكل الذي من شأنه أن يعيد طرح الأسئلة على هذا المجتمع، ويعيد لحركات السلام ورفض الاحتلال زخماً جديداً، ويحرم القوى الصهيونية العنصرية الأكثر تعصباً ورجعيةً من الكثير من «الأسلحة» التي تستخدمها لتكتيل المجتمع الإسرائيلي وتحشيده ضد فكرة العدالة والسلام والحرية والتعايش.
وكما أن أكثر أشكال العبط والاستعباط السياسي هو الطرح الذي لا يرى في هذا الشكل الكفاحي سوى «ملهاة» سياسية، وأن لا جدوى منها، ويرى في «الكفاح المسلح» الوسيلة [الوحيدة والكفيلة] التي «تجدي»، فإن من العبط السياسي والاستعباط السياسي أيضاً، وضع هذا الشكل في تناقض تناحري مع كافة الأشكال الأخرى في ظروف معينة.
شكل الكفاح الوطني ليس مسألة مبدئية، وليس شأناً من شؤون العقيدة السياسية أو الدينية أو غيرها.
شكل الكفاح الوطني مسألة تحددها وتقررها أيضاً، جملة من المعطيات المحيطة بالظروف التاريخية في مرحلة معينة، وبمعطيات الواقع الملموسة بما فيها أدق حسابات الربح والخسارة، وحسابات التراكم الوطني المطّرد.
ولو كان الأمر غير ذلك لما شهدنا وعشنا ورأينا بأمّ أعيننا الحالة الوطنية التي أفرزتها الانتفاضة الوطنية الكبرى في العام 1987، والتي أبهرت العالم، وغيرت وقلبت كل الموازين، وخلقت نموذجاً تحول إلى تجربة تاريخية تدرسها الآن شعوب العالم وتتوقف عندها كل معاهد علم الاجتماع السياسي، وعلى مدى ما يزيد على عشرات السنين من تجربة الشعوب الحيّة، بما فيها تجارب شعوب المنطقة نفسها.
«بُرقة» مفصل مهم وكبير، وسيكون له ما بعده، وإنّ غداً لناظرهِ قريب.
فيا أهلنا في «بُرقة» وفي كل محيطها من القرى والبلدات المجاورة، نبارك لكم وفيكم هذا «الزعل العاطل»، لأنه على ما يبدو هو أجمل وأبهى ما فيكم ولديكم.