نابلس - سنية الحسيني - النجاح الإخباري - أثار الانسحاب الأميركي من أفغانستان مؤخراً الكثير من الجدل حول أسبابه، حيث اعتبر العديد من المراقبين أنه يعكس هزيمة نكراء للولايات المتحدة، إلا أنه قد يكون من المفيد مراجعة السياسة الأميركية الخارجية في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة الماضية، والتي قد تقدم إجابات عن كثير من مواقف أميركا اليوم في المنطقة، بما فيها ذلك الانسحاب.
يأتي انسحاب الولايات المتحدة العسكري من أفغانستان اليوم في إطار إستراتيجية أميركية متكاملة، تختلف عن تلك التي حكمت عملها طوال عدة عقود في المنطقة. وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً أساسياً في ترسيخ البنية السياسية والأمنية للمنطقة، وفق إستراتيجية خاصة تحقق أهدافها، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وحكمت عملها خلال سنوات الحرب الباردة وما بعدها. وكان من أهم الأهداف التي سعت الإستراتيجية الأميركية لتحقيقها في المنطقة، بالإضافة إلى احتواء تمدد نفوذ الاتحاد السوفياتي فيها، ضمان استمرار تدفق النفط العربي، وحماية أمن إسرائيل، «المحاطة بالأعداء من كل صوب». وشكل اعتماد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عليها ضمانة للاستقرار السياسي في المنطقة، من خلال التزام أميركي عسكري وأمني ومالي. وجاء ذلك الدور الأميركي في ترسيخ الواقع السياسي والأمني الشرق أوسطي لصالحها والمنسجم مع الأهداف الغربية، استكمالاً للدور الذي بدأته القوى الاستعمارية الغربية، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، في تصميم ذلك النظام الشرق أوسطي بعد الحرب العالمية الأولى.
إن الإستراتيجية السياسية والأمنية التي رسختها الولايات المتحدة لخدمة أهدافها في الشرق الأوسط لم تنحصر فقط في ظل سنوات الحرب الباردة المتمحورة في الأساس في إطار سياسة الاحتواء التي تبنتها أميركا لحصار نفوذ وتمدد الاتحاد السوفياتي، كما في مناطق أخرى عديدة من العالم، وإنما امتد العمل بتلك الإستراتيجية المسيطرة إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. ويفسر عدد من الأحداث جوهر تلك الإستراتيجية الممتدة على رأسها الحرب التي شنتها ضمن تحالف دولي لإلحاق الهزيمة بنظام صدام حسين، بعد احتلاله الكويت عام ١٩٩٠. وكذلك تبني أميركا سياسة الاحتواء المزدوج ضد العراق وإيران بدءاً بعقد التسعينيات من القرن الماضي، وترسيخ شبكة أمنية قوية تضم عدداً من دول المنطقة، خاصة بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩٠-١٩٩١. يأتي ذلك بالإضافة إلى غزو أفغانستان والإطاحة بنظام «طالبان» عام ٢٠٠١، وغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين عام ٢٠٠٣. وقد يكون آخر الشواهد التي تشير إلى تلك السياسية، قيادتها لتحالف دولي للإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا عام ٢٠١١، في أعقاب ما سمّي أحداث الربيع العربي في ليبيا.
ظهر تحول مفاهيمي مهم في الإستراتيجية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط مع صعود باراك أوباما إلى سدة الحكم في أميركا عام ٢٠٠٨. جاء ذلك التحول في ظل الأزمة المالية العالمية، التي تأثرت الولايات المتحدة بها بشكل كبير كما غيرها من دول العالم، في ظل مراجعات لسياسات أميركا في منطقة الشرق الأوسط، باستخدام القوة الصلبة العسكرية والمكلفة مادياً لتقويض أعدائها فيها، في ظل نتائج شككت بفعالية هذه القوة. إذ لم يتم القضاء على الجماعات الإرهابية تماماً، ولم تنجح الولايات المتحدة بتشكيل حكومات ديمقراطية ناجحة بدل تلك التي أطاحت بها، في العراق وأفغانستان، كما لم يتم تحييد النفوذ الإيراني في المنطقة. وعلى العكس، جنت الولايات المتحدة عداء شعوب بلدان تلك المنطقة جراء سياساتها فيها. تبنت إدارة أوباما إستراتيجية جديدة في منطقة الشرق الأوسط، تعد اليوم البوصلة لفهم السياسة الأميركية فيها، وليس لفهم سياسة جو بايدن الرئيس الأميركي الحالي فقط، وإنما أيضاً لتفسير سياسة دونالد ترامب الرئيس الجمهوري السابق للولايات المتحدة.
أكدت إستراتيجية أوباما وفريقه في منطقة الشرق الأوسط، والتي تم استنباطها مما جاء مكتوباً أو قولاً أو مفعولاً، على ضرورة التخلي عن القوة الصلبة، التي اعتادت الولايات المتحدة استخدامها مع دول المنطقة العنيدة في الماضي، وتبنت بدلاً منها القوة الذكية، وهو مفهوم جديد، دمج بين استخدام القوة الصلبة المسلحة والقوة الناعمة السياسية، بهدف تحقيق النتائج المرجوة. كما ركزت تلك الإستراتيجية على ضرورة خفض الالتزامات الأمنية والعسكرية تجاه الحلفاء ليس فقط في المنطقة، بل أيضاً في أوروبا وشرق آسيا. وأكدت كذلك تلك الإستراتيجية على ضرورة الانسحاب العسكري المكلف مادياً من المنطقة. وبالفعل تم تخفيض ١٨٠ مليار دولار من النفقات العسكرية الأميركية ما بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٦. كما دعت تلك الإستراتيجية أيضاً إلى ضرورة اعتماد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على أنفسهم بشكل ذاتي للحفاظ على بقائهم أو الدفاع عن أنظمتهم أو تحقيق أهدافهم، بعيداً عن مساعدة ودعم الولايات المتحدة كما اعتادوا من قبل، وتوجه واشنطن كذلك في إطار تلك الإستراتيجية لعدم التدخل في طبيعة التوازن الموجود بين الدول السنية والشيعية.
أكملت إدارة أوباما انسحابها من العراق ما بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١١، ولم تدعم حليفها حسني مبارك الرئيس المصري خلال ثورة عام ٢٠١١، بعد ثلاثة عقود من التحالف. ورغم مشاركتها في العملية العسكرية لإسقاط نظام القذافي في ليبيا في ذات العام، في إطار تحالف دولي، سحبت الولايات المتحدة قواتها العسكرية بعد ثلاثة أسابيع من بدء العملية، وأعطت زمام المبادرة في الهجوم للقوات البريطانية والفرنسية، وأبقت فقط على الدعم اللوجستي والمخابراتي. ولم تهتم الولايات المتحدة في أعقاب الإطاحة بنظام القذافي بترسيخ وجود لها في ليبيا، كما بدأت تفعل دول أخرى. وفي سورية، وفي أعقاب الثورة، دعت الولايات المتحدة بشار الأسد الرئيس السوري للتنحي، دون أي ضغط حقيقي لإجباره على ذلك. ورغم اعتبارها أن استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية خط أحمر، إلا أنها اكتفت بالاتفاق مع روسيا على تدمير المخزون السوري منها، واكتفت بتوجيه ضربات غير موجعة للنظام بعد اتهامه بتكرار استخدام تلك الأسلحة. وعلى الرغم من دعم الولايات المتحدة للمعارضة في سورية عسكرياً ولوجستياً ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣، إلا أنها هزمت وتم تفكيك الجيش السوري الحر المدعوم من قبلها، كما أنها لم تنجح في حماية حلفائها الأكراد. واعتبرت السعودية عدم تدخل الولايات المتحدة في سورية كارثة إستراتيجية، الأمر الذي استدعى تدخل عدد من دول الخليج وبشكل منفرد لمحاصرة التمدد الشيعي الإيراني في سورية، عبر دعم جماعات مسلحة.     
وفي الحرب ضد «داعش» في سورية والعراق ما بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٤، اعتمدت الولايات المتحدة على الضربات الجوية، بمساعدة القوة الاستخبارية على الأرض التي تعاونت مع الجيش العراقي وقوات البشمركة التابعة للأكراد في العراق، وقوات المعارضة السورية. لم تقرر الولايات المتحدة التدخل بشكل فعلي في الأزمة السورية في ظل عدم رغبتها بالتصادم مع إيران وحلفائها، وفي إطار مساعيها لتوقيع الاتفاق النووي معها، والتي بدأت منتصف العام ٢٠١٢. وبعد توقيع الاتفاق عام ٢٠١٥، أطلقت روسيا حملة عسكرية واسعة لحماية نظام الأسد، مستغلة التطورات على الجبهة الأميركية الإيرانية.
انعكست إستراتيجية أوباما المتحولة على سياسات إدارة ترامب، التي اعتبرت الالتزامات المالية الأمنية في الشرق الأوسط أعباء، وتركت المنطقة تعتمد على نفسها أمنياً وعسكرياً في صراعاتها وحروبها، في سورية والعراق وليبيا واليمن. فشلت الولايات المتحدة في عهد ترامب حتى في دعم حلفائها من قوات سورية الديمقراطية الكردية، والتي تعاونت مع أميركا في حربها ضد «داعش»، تركت لمصير دامٍ في حربها مع تركيا، شمال سورية. وكانت الولايات المتحدة تنوي سحب قواتها من سورية في عهد ترامب، إلا أنها عادت وتراجعت.
ولم تختلف توجهات بايدن وخلال أشهر حكمه المعدودة عن التوجهات الإستراتيجية تجاه الشرق الأوسط، والتي وضعت وترسخت في عهد أوباما، فباتت الدبلوماسية الحل الأساس المطروح من قبل أميركا لكل صراعات الشرق الأوسط، في ليبيا وسورية واليمن، وبات انسحاب قواتها العسكرية الخيار المفضل لها، كما حصل في أفغانستان والعراق أيضاً مع نهاية العام الحالي. وأبقت أميركا ٩٠٠ جندي في سورية، فقط لتساعد إسرائيل في مهمتها المتمثلة في منع السماح لإيران وحلفائها ببناء ترسانة عسكرية لها في الأراضي السورية مهددة لأمنها، في ظل تصريحات أميركا المتكررة، بعدم وجود مصلحة إستراتيجية ببقائها في سورية.
أبقت الولايات المتحدة استثناءً وحيداً في إطار تلك المقاربة الإستراتيجية المتحولة، تمثلت في استمرار دعمها لإسرائيل. ورغم ذلك ومع هذه التبدلات الإستراتيجية الأميركية المستمرة، باتت حتى إسرائيل تتشكك بمدى إمكانية استمرار دعم الولايات المتحدة لها في المستقبل.