غازي مرتجى - النجاح الإخباري - يفضل مُنظرون كثر تحليل السلوك الدولي بواسطة موازين الربح والخسارة في النظام الدولي أو بواسطة مصالح الدولة الدائمة، لا بواسطة تأثير القادة المتبادل. لكن بلغة لطيفة نقول إن السياسة الأمريكية لا تسير على هذا النهج،  يصعب الافتراض مثلاً لو انتخبت هيلاري كلينتون أن تقدم على نقل سفارة بلادها إلى القدس المحتلة، كذلك ستكون سياسة رئيس ديمقراطي مثل جو بايدن مخالفة كثيرًا لسياسة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب.

وعليه، تنبع أهمية معرفة الرئيس القادم للولايات المتحدة الامريكية، لما يعنيه ذلك من إفرزات وتأثيرات على ملفات العالم كافة، بما فيها القضية الفلسطينية.

الرهان

محورية الدور الأمريكي تحكم مدخلات القضايا الدولية المركزية ومخرجاتها في العالم كافة، ومنها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لذلك تضع القيادة الفلسطينية ضمن حساباتها سيناريو سقوط ورقة رجل البيت الأبيض في الانتخابات المرتقبة في الخريف القادم، بل وتراهن على هذا الخيار- إلى حد ما-، كما راهنت على إمكانية التخلص من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو في الانتخابات التي اعيدت مرات ثلاث في غضون عام، كي تستطيع تنفيذ خطتها للمواجهة، وعلى أمل تغيير سياسات يمينية متطرفة بدأها "ملك إسرائيل" منذ 2010 حتى الآن، لكن هذا الرهان لم يعمل بسبب التجاذبات الحزبية الإسرائيلية.

يدرك كاهن السياسة العربية والدولية، محمود عباس، أن "نهاية حقبة ترامب" قد تعيد هندسة خارطة المشهد السياسي في المنطقة، إذ إنَّ بايدن لم يخف رفضه لما أطلق عليه (صفقة القرن)، لكنه لأسباب انتخابية تحدث عن إبقائه لقرار نقل السفارة إلى القدس الذي نفذه ترامب ليحصل على دعم اللوبي اليهودي الذي سينفض من حوله في حال شعر بضعف احتمالات فوزه.

خزانات التفكير

يعتمد كثير من القادة على توصيات تقدمها مراكز الأبحاث أو ما يعرف باسم خزانات التفكير (Think tanks)، لاتخاذ قرارات استراتيجية حيال القضايا المصيرية والمهمة، لكن يحتاج الفلسطينيون مثل هذا النوع، فرغم انتشار عديد المراكز إلا أنَّ بعضها يعمل في مجال تبيض الأموال والآراء، وجزء آخر يعمل وفقًا لتوجهات الممول، والقليل منها فقط يتمتع بالمهنية، ويقدم مخرجات بحثية تفتح الطريق أمام صاحب القرار ليبني عليها تصوراته وقراراته تجاه الملفات ذات العلاقة .

فعلى سبيل المثال لا الحصر، في الموضوع الصحي في فلسطين، لا يوجد ثقل ووزن للمراكز والجهات البحثية المتخصصة، بينما يحدثني صديق سياسي في بريطانيا أنَّ حكومة المملكة المتحدة كانت مهمتها فقط إقرار توصيات اللجان البحثية العلمية المتخصصة.

في المقابل فإنَّ السياسي الفلسطيني بات يعتبر مخرجات مراكز الأبحاث هُراءً لا يمكن تحقيقه أو الأخذ به، فبات الباحث السياسي أو الاقتصادي الذي يحلل بشكل علمي وعملي لا تصلح نتائجه سوى لصفحته على فيسبوك بسبب إهمال الجهات ذات العلاقة لنتائجه وتوصياته.

دروس التاريخ

عودة إلى الفكرة الأساس، والمتمثلة في إحتمال فوز بايدن أو إعادة إنتخاب ترامب، وبتقديري المستند على تجارب تاريخية، فإن الاحتمالين قد يعملان لصالح القضية الفلسطينية، وذلك لسببين:

  1. يخبرنا التاريخ أنَّ أيَّ رئيس أمريكي يُعاد انتخابه يعود أدراجه الأولى من حيث الحقوق وتسجيل المواقف، لكن مع رئيس جدلي كـ"ترامب" - والذي يعتقد فنلندا جزءًا من روسيا- لا يمكن لمراكز الدراسات مجتمعة معرفة ما يفكر، وما سيؤول له الوضع السياسي في المنطقة في حال نال ولاية ثانية.
  2. أما الديمقراطي بايدن فإنَّه يسير وفق كراسة "أ-ب" سياسة، ووفق مخططات مدروسة، سبقه فيها كل الرؤساء الديمقراطيين، وآخرهم من كان نائبه "أوباما"، وعليه، فإنَّ بايدن لن يكون فظ التحالف مع القضايا العربية والفلسطينية، بل قد تمضي فترته الرئاسية الأولى على منهج ترامب ذاته، حتى يضمن عدم تحريض اللوبي اليهودي ضده. لكن المصلحة الوحيدة في حال فوزه هي وقف كسر القرارات والشرعيات التي انتهجها ترامب فباتت كل قرارات الشرعية الدولية وقرارات الولايات المتحدة نفسها بما يخص القضية الفلسطينية والصراع المفتوح في مهب الريح.  والمكسب الآخر هو عودة العلاقات مع السلطة الفلسطينية مع إمكانية إبقاء الوضع في حالة "الفريز – استاتيكو" وهو في ظل حكم ترامب وتحالفه مع نتنياهو بات إنجازًا كبيرًا بعد القفزات غير المحسوبة التي تمت خلال السنتين الأخيرتين.

    ماذا يفعل الفلسطينيون؟

تخطط القيادة الفلسطينية لهذه المرحلة بالتأكيد وما من "عاقل" يقطع علاقاته بالولايات المتحدة ويوقف التنسيق بأشكاله كافّة معها ومع حليفتها إسرائيل ويصرخ ويصرّح ليل نهار ضد الدولة التي ترتعد لها دول تصرف على نفسها مئات السنين دون الحاجة للولايات المتحدة، إلا ويكون قد وضع احتمالًا للمغامرة بكل تلك العلاقة إلى حين تبدل النظام وتغيير الرئيس الحالي، وهو الخيار الأول للقيادة الفلسطينية وأسهلها في حساباتها السياسية لمستقبل القضية الفلسطينية.

لكن يتوجب أن تترافق هذه "المغامرة" مع خطط استراتيجية، فالدراسات البحثية من المفترض أن تكون أنجزت، وهي تتضمن كل الخيارات المتاحة والممكنة والمتوقعة للمفاضلة بينها، في حال فوز بايدن بالرئاسة، وأن تكون القرارات الفلسطينية وفق مخرجات تلك الدراسة جاهزة، فنحن كفلسطينيين نبرع في رد الفعل، ولم نكن من المخططين لرد الفعل أو لفعل منفصل يومًا ما، وهو الأمر الذي أودى بالقضية الفلسطينية للمرحلة الأرذل في تاريخها .

ثلاثة سينايورهات متوقعة في حال فوز بايدن:

  1. السير على خطى ترامب: وهذا الأمر متوقع في حال واجه بايدن ضغوطًا داخلية أو كان مجلس الشيوخ للجمهوريين – وهذا متوقع بشدة- فيضطر بايدن لاستكمال خطط ترامب المرسومة من اللوبي اليهودي سواء أكان ذلك بأمر الضم أم صفقة القرن .. الخ. – هنا لا يوجد حل أمام القيادة الفلسطينية سوى حل "التوريط" وتسليم المسؤوليات لإسرائيل، وهو ما لا تريده ولا تخطط له الأخيرة.
  2. حرق الوقت للفترة الرئاسية الأولى:  وربما هو الخيار الواقعي والأكثر توقعًا بحيث يمنع بايدن أي خطوات جديدة سواء في صفقة القرن أو كسر قرارات الشرعية الدولية، لكنه سيُبقي على ما اتَّخذه ترامب من قرارات دون (تسهيل تنفيذ)، على سبيل المثال يمكن إبقاؤه على قرار نقل السفارة للقدس، لكن مع إعادة العلاقات بشكل أوسع مع السلطة الفلسطينية، وهذا الخيار متوقع في ظل سياسة الديمقراطيين المعمول بها منذ عقود .

على الأقل ليضمن بايدن فترة رئاسية ثانية بعد السنوات الأربع الأولى – وهنا على الفلسطينيين العودة إلى الداخل وتحصينه تجاه مخططات الاحتلال، وهذا سيشكل حائط قوة جديد للقيادة الفلسطينية لتعيد ترتيب الأوراق، الأمر الذي يتطلب البدء (في كل الخيارات المتوقعة) بترتيب منظمة التحرير الفلسطينية وإعمال العقل الوطني لإعادة توحيد شطري الوطن سياسيًا وجغرافيًا.

  1. الإنقلاب على قرارات ترامب والعودة لنقطة البداية: وهذه أضغاث أحلام فالتاريخ لا يعود للخلف إلا في حال امتلكت القيادة الفلسطينية أوراق قوة فيعود التاريخ لإصلاح بعض الخلل الذي سببته الانقسامات والتباينات التي أفرزت صفقة القرن والتغول الإسرائيلي الأخير. وهنا قبل أن نطلب من بايدن الانقلاب على قرارات ترامب من المفترض أن تنقلب الصورة الفلسطينية فتذوب الخلافات، وتبقى تباينات الرأي المطلوبة والمهمة لأيّ دولة وليدة. وهذه "الأحلام" يمكن لها أن تتحقق في حال كانت التحضيرات الفلسطينية لهذا الخيار واقعًا.

أما في حال إعادة انتخاب ترامب، فلن تجد القيادة الفلسطينية أمامها الكثير من الخيارات للمفاضلة بينها، باستثناء تعليق الآمال على تبدل توجهات ترامب وتغيير قراراته عملًا بتاريخ الرؤساء الأمريكيين في فترتهم الثانية التي كانت بالعادة تعتبر الفترة المناسبة لإطلاق مبادرات السلام والحل كما في كامب ديفيد الأخيرة التي جاءت في أيام كلينتون الأخيرة في الحكم. وهذا الخيار سيدعمه نزول نتنياهو عن سدة الحكم في إسرائيل، وهو ما قد يكون داعمًا لإمكانية إعادة الأمور إلى نقطتها الأساس، ولكن في هذه الحالة ينقص الشعب الفلسطيني الوحدة الداخلية والالتزام الوطني بشرعية واحدة وممثل وحيد وترتيب البيت، وهو أمر طال انتظاره كثيرًا.