غزة - أسماء الغول - النجاح الإخباري - مرّت ثلاثة أعوام على اليوم الّذي تركت فيه غزّة، أردت أن أنجو بذاتي عبر الخلاص الفرديّ، بعد أن عشت على أرضها عمرًا من أجل خلاص جماعيّ.

 كانت السنوات الأولى في فرنسا من أصعب السنوات عليّ، لم تشفني على الإطلاق كما يعتقد البعض أنّ مجرّد الوصول إلى أوروبّا يعني نهاية المعاناة، في حين قد يحدث العكس، فنكتسب معاناة أخرى متمثّلة في مقاومة النظام الجديد حتّى آخر نفس، المواعيد، الاعتناء وحدك بالأطفال؛ فما من منظومة عائليّة تساعدك كما كان يحدث في غزّة، إضافة إلى الوحدة الّتي لا تحتضن خلال لياليها الطويلة سوى الجدار المقابل لك.

عانيت من كوابيس، خوف من أصوات الحرب القديمة، أرق شديد، صعوبة تقبُّل وضعي الجديد حيث لا يعرفني أحد، بعد أن كان كلّ مَنْ في شارع الرمال بغزّة يبادلني التحيّة، تبحث هنا عن أصدقاء، لكن ليس ثمّة مَنْ لديك معه تاريخ قديم مشترك، يعرف طباعك وتعرف طباعه، كلّ مَنْ صادقتهم تركوا لي فشل علاقاتنا، وهذا الفشل كان يعني المزيد من التورّط في الحياة الجديدة؛ أي أنّني بدأت أعيش فعلًا في هذا البلد، بعد أن مرّت عليّ شهور طويلة أتعامل فيها مع كلّ شيء على أنّه مؤقّت، وسأعود إلى منزلي وعملي ومقهاي المفضّل وأصدقاء العمر، وقد ألمح حبيبًا سابقًا في "حارته"!

وأقنعت ابني بأنّ غربتنا مؤقّتة، وقد عانى هو الآخر من العنصريّة والعزلة، على الرغم من أنّه بذل مجهودًا كبيرًا لتقبُّل كلّ شيء وتعلُّم اللغة. وبفعل هذه الإرادة المبكّرة، سرعان ما أصبح مستواه في اللغة موازيًا لمستوى أيّ طالب فرنسيّ، لكنّه بكى كثيرًا، واشتاق إلى أصدقائه ومدرسته ونادي "شامبيونز" الّذي كان يلعب فيه كرة القدم، وكنت أغضب لأنّي عاجزة عن فعل شيء، كنت أشعر بأنّه يكفي ما عشناه من ثلاث حروب ومن اقتتال، ولن أورثهم مزيدًا من الخوف.

ثمّة إحساس دفين كان يقول لي أن سيمرّ كلّ شيء وتتحسّن الأحوال، وتحت هذه الضغوط بكيت أنا أيضًا في كثير من المرّات سرًّا وجهرًا، وحاولت النسيان بممارسة قيادة الدراجة، ودروس اللغة، والمشاركة في حصص الرياضة، واكتشفت الريف من حولي أكثر، مشيت كلّ يوم ساعة وبدأت أحبّ ما كنت أكرهه؛ فحين تعيش في الطبيعة لا تعود تراها جميلة ومبهرة كما لو أنّك تراها من نافذة قطار، لذلك قرّرت كما يقول ميلان كونديرا في رواية "البطء"، قرّرت أن أكتشف نعمة هذا البطء في المرور على جميع التفاصيل.

كان من الصعب عليّ أن أتقبّل نفسي نكرة، ولكن الآن أعرف أنّني كنت في حاجة إلى ذلك، مجرّد أمّ تتعلّم الطبخ وتوطّد علاقتها نفسيًّا وعمليًّا بمعنى الأمومة في الغربة، أمّ لا تزال تكتب المقالات والتقارير، لديها مسؤوليّات عائلتها في الوطن، كنت أشعر بما تركته غزّة في داخلي من هوس أمنيّ وشكّ في الناس في كلّ مكان، وليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ولم أكن آخذ الأمور بما تبدو عليه، وأنا على يقين بأنّني لست وحدي مَنْ يعاني من هذه المشكلة، بل ثمّة مئات مثلي، وقد عرفت أنّ هذا الأمر صورة من صور الخراب الكثير والثقيل، الّذي تركته غزّة في داخلي وفي تجربتي، ولا سيّما السياسيّة؛ إذ إنّني لم أعد أثق بأحد، وقد كدت أصدّق أنّ ثمّة مَنْ يراقبني.

في أوّل عام من الرحيل عن غزّة، ظلّت ذاكرتي تردّد مشاهد تعنيفي وضربي وشتمي، من قِبَل رجال شرطة "حماس" ونسائهم، بعد توقيفي مرّتين عام 2011،  في أثناء مظاهرات تطالب بالتغيير، وتزورني وجوه الناس الّذين خانوا ثقتي، بعد أن اكتشفت على مرّ سنوات لاحقة أنّهم يعملون لديهم،  فأتوتّر ولا أكون على طبيعتي. لكن لم أكن قد وصلت وقتذاك إلى حقيقة ما يملأ نفسي من أنقاض وهدم، نعم، كنت محطّمة ومهزومة، ولست مستعدّة لحياة جديدة. وكنت في حاجة إلى أن أذكّر نفسي في مرّات عديدة، بأنّه لا يمكن أحدًا أن يقترب منّي بهدف أذيّتي، وأنّ هذا بلد حرّ وأنا حرّة، نعم، أعرف أنّني لم أكن بحاجة إلى أوروبّا من أجل حرّيّتي الشخصيّة؛ فأنا أيضًا كنت حرّة في غزّة، وأنتزعها غصبًا عن الجميع، لكنّ الحرّيّة هنا فيها أمان؛ فلا أحد يُحصي عليك خطواتك أو فساتينك أو أصدقاءك أو سفريّاتك، فما مِنْ أمن داخليّ وشرطة فضيلة، وجيران يكتبون عنك تقارير شبه يوميّة.

تعرّفت على سودانيّة مثقّفة وطيّبة، عائلتها كانت معارضة في السودان، وغادرت إلى لندن منذ سنوات، وهي الوحيدة في فرنسا مع ابنتها وزوجها، وقد تشاركنا الرياضة والركض والضحك والنميمة والأكل، وبنَيْنا تاريخًا مشتركًا، وشعرت ببعض السعادة.

ثمّ بدأت أطبخ جيّدًا بعد مكالمات كثيرة مع صديقاتي الموزَّعات على العالم ووالدتي، ودخلت مرحلة العزائم، وهذه أيضًا يمرّ فيها كلّ مَنْ تغرّب، فمجرّد أن يتأكّد أنّه يطبخ جيّدًا يريد أن يذوق الشعب الأوروبّيّ كلّه من طبخته، لعلّهم يكتشفون طعم أطباقهم الجرداء، وكانوا يفرحون بأيّ شيء: بصارة، كفتة، بامية، عدس. إلّا المحشي لم أتعلّمه، أو بالأحرى لم أجد "حفّارة كوسا"!

وإذ إنّ السفر جدّد من تجربتي على مستوى الكتابة، وشعرت بأنّني أذهب إلى أماكن ومشاعر لم أجرّب أن أعبّر عنها سابقًا، أدركت ماذا قد يفعل الاغتراب بك؛ فهو يعطيك أدوات جديدة، بعد أن تكون بلدك قد حمّلتك بحارًا من الإلهام، عبر قصص وشخوص لا تنضب مع آلاف الصفحات.

لكنّ هذا كلّه بقي خارجيًّا؛ أي أنّني في أعماقي غير سعيدة، بل هذه وسائل مقاومة "غصّة القلب" في البعد عن الأهل والأصدقاء والعمل، بل البعد عن كلّ ما كنته سابقًا. أحيانًا تأتيني نوبة هلع مفاجِئة، ولا أتعرّف على نفسي؛ مَنْ تكون هذه المرأة؟ أين طفلة المخيّم الصغيرة الّتي كانت ترتدي قبّة مريول شديدة البياض، وشعرها شديد الضبط في "ديل حصان"، وتفرح حين يعطيها سيدْها "الخمسة آلاف"، أي نصف شيكل، فتشتري كلّ شيء من "الكانتين"، ثمّ يهدأ قلبي عن الخفقان، وأهزّ رأسي لأنّه حتّى هذه الطفلة، كانت مليئة بالألم والخوف، ولم تكن سعيدة، فلا يُريحها سوى الخيالات الّتي تنسجها في رأسها، وسعاد حسني الّتي كانت تظهر فجأة في "قاع الدار" لترقص معها.

وأصبحت الشهور في الغربة كأنّها أيّام، والسنوات كأنّها أسابيع، ويمرّ كلّ شيء سريعًا بل يتكرّر: الطقس، الإجازات، المدارس، التأمينات، الضرائب، سائقو الحافلات. وذهب إحساسي المؤقّت، والوعود الّتي أبرمتها لابني ناصر بأنّنا سنرجع في شباط (فبراير) القادم، ربّما الصيف القادم... على الأرجح في إجازة الشتاء، وهو نسي أيضًا، وأصبح له عالمه الصغير.

وبدأت كلّ فترة وأخرى أتلقّى خبر موت واحد عزيز عليّ أو مرضه، فكان موت شيراز صديقة المراهقة والشباب، ومرض زوجي السابق، الّذي هو أيضًا صديقي الدائم، ثمّ أخيرًا موت خالتي الغالية، وكأنّني بدأت أفهم ما يعنيه أنّنا نكبر في السنّ وتمرّ بنا الحياة، لنرى كلّ شيء حولنا يتساقط؛ فنحن أوراق خريف هزيلة، هبّة ريح واحدة تُلقي بنا إلى الحُفر، وما أكثرها! هكذا أصبحت تعني لي الغربة؛ أن تبني حياتك بعيدًا عن كلّ شيء، كأنّك في كهف وخرجت لترى أنّ الكلّ شيء تغيّر وذهب، إلّا خوفك من التقدّم بقي على كماله.

الغريب أنّك كلّما مررت في حياة الغربة هذه أدركت مقدار وحدتك، ولا يحدث يومًا العكس، بمعنى أنّك لا تشفى منها أبدًا؛ فالوحدة شعور عظيم حين تهاجر وليست شكلًا، وهذه الوحدة لها قوّة التأثير فيك؛ فقد تُصدِر قرارات مجنونة من أجل التخلّص منها، كأن تدعو كلّ زملائك أو زميلاتك في حصّة اللغة على الغداء عندك، أو تبحث عن أبناء بلدك لتشكّل معهم مجتمعًا موازيًا كي تشعر بالوطن، أو ترتبط بأقصى قوّتك واندفاعك، معتقدًا أنّ هذا حبّ جارف، لكن سرعان ما تكتشف أنّ كلّ هذا غير حقيقيّ، وأنّك مرعوب من وحدتك وغربتك! والحلّ يكون في عائلتك، دائمًا وأبدًا؛ فهُم دائمًا هناك من أجلك، ولو عبر "الواتس أب".

لماذا أكتب هذا المقال الآن، مع أنّني أبلغت محرّري في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة بفكرة مغايرة تمامًا قبل نحو شهر؟ السبب أنّني حين رأيت فيديو "وائل غنيم" هزّتني الصدمة، شعرت بأنّ عضلات وجهي كلّها ترتجف من الحزن، هذا الشابّ الّذي كان يمثّل مرحلة وأملًا كبيرين، كيف حدث له هذا؟ ما الّذي مرّ به بالضبط؟ الأمر الّذي دفع شريط الغربة كلّه إلى رأسي، وبعد ذلك لم أستغرب قطّ ما قد يكون حدث لوائل، في عزلته تلك سنوات عديدة.

إنّ بلادنا تعطينا الأمل والسبب في الحياة؛ لأنّك تبقى تقاوم لتُغيّر، فترى أمام عينيك كيف يكبر التغيير من مولود إلى شابّ قويّ، لتحسّ بقيمة كلّ شيء، بينما الغربة تحطّم كلّ ذلك، وتصبح سعادتك محصورة في كرسيّ فارغ وجدته فجأة في الحافلة أو المترو، مع كلّ تلك الوجوه الغريبة الّتي لا تعرفها، ولن تعرفها يومًا.

لقد شعرت بأنّ ربيع بلادنا وربيع أعمارنا الّذي بدأ نهاية 2010، تحطّم مع فيديوهات وائل غنيم، بل حال الربيع العربيّ تمثّل تمامًا في ما وصل إليه نفسيًّا وجسديًّا، وتمنّيت لو أنّه بقي داخلي على صورته الأولى، وأحاديثه القديمة، لكنّي أيقنت أيضًا أنّ الحياة لا تستقيم من غير أن نراه على هذه الشاكلة، وفي هذا المنحى، وإذا لم يكن هو، كنّا سنرى أيقونة أخرى تتحطّم. وقد نجا مَنْ نجا من جنون اللاشيء الّذي يتبقّى لك في الغربة، بعد أن كنت تفعل كلّ شيء في بلدك.

نعم، غزّة أتلفت "رادار" السعادة داخلي و"رادار" الأمان والثقة، وبدأت أخيرًا أنتبه إلى كلّ الشرّ غير المبرَّر تجاه البشر البريئين حولي، الّذين لم يسلموا من ظنوني الملوّثة، الّتي ليست سوى أوهام بنَيتها وشيّدتها حكاياتٍ وقصصًا، كلّها لا يناسب سوى الهوس الّذي تركته الحرب والصحافة والسياسة، وعمّا فعلته الخيبات الشخصيّة والعامّة بي؛ فقرّرت أن أصلح من نفسي، وأضبط جميع "الرادارات" لأكون "نورمال"، لكن هذا لا يعني أنّ غزّة مدينة متوحّشة؛ فقد كانت الوحيدة الّتي أعطتني سعادة التأثير وسبب الحياة!

نقلا عن موقع "فسحة"