سلطان حطاب - النجاح الإخباري - ليس السؤال ماذا اكتب عن "أبو مازن" فذلك أمر يسير، ولكن السؤال كيف أكتب عن أبو مازن، فذلك أمر له خصوصية فأنا لا أدعي الحياد في الكتابة عنه لإدراكي أهمية دوره في مرحلة تتطلب رجلا مثله.. ولذا فإنني سأكتب عنه به أو منه ليكتب عن نفسه من خلال استنطاق كلماته وخطبه وتصريحاته، وسأكتب عنه من خلال الآخرين الذين كتبوا عنه بإنصاف ورؤية موضوعية..

الكتابة عن أبو مازن الانسان والقائد والمسؤول وابن فتح وابن فلسطين وابن النكبة ومخالط قادة العالم ممن استقبلوه او حسبوا حسابه مسألة ليست سهلة، فهي الكتابة عن القضية الفلسطينية في تطورها المعقد وفي مرحلة صعبة من مراحلها الهامة، الكتابة عن أبو مازن هي الكتابة عن السلام وعن المقاومة غير المسلحة وعن مخاطبة العالم وعن الإيمان بتراكم النضال بهدوء وضمن رؤية العالم المؤمن بالقضية الفلسطينية والمناصر لها وان بمستويات مختلفة قد تبدأ من الصفر كبريطانيا وتنتهي برقم صاعد كالسويد، وهي كتابة عن قرارات الشرعية الدولية وعن الأمم المتحدة وعن مجلس الأمن وعن سياسات الاتحاد الاوروبي إزاء القضية.. هي كتابة عن شبكة العلاقات الفلسطينية في تداخلها مع العلاقات الدولية في دول العالم المتعددة وشبكة العلاقات العربية في تحولاتها المفجعة بالقضية، وعن رؤية أبو مازن للفرق بين المقاومة والارهاب، ووقوفه الصلب في وجه الارهاب وتجلياته وتعبيراته العملية والتحريضية والتعبوية.

هي الكتابة عن فهمه للدولة الفلسطينية وأبعادها عن تلوث مفهوم الدولة اليهودية، ووقوفه بوعي وشجاعة في وجه تمرير القبول بالدولة اليهودية رغم الضغوط التي تقصم الظهر..

هي كتابة عن رؤيته لفلسطين اليوم وفلسطين الغد، وعن حق شعبه في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية بأساليب الكفاح والنضال السلمية والسياسية البعيدة عن العنف المسلح.. الكتابة عن الرجل وسياساته ورؤيته ونهجه ليست سهلة، والكاتب عن ذلك لا بد أن يكون كالجراح، فأبو مازن واقعي وعملي بعيد عن التعبوية والشعاراتية وعن الخلط والديمانموجيا وعن ازدواجية الرؤية والتصريحات والتصورات، ولديه طاولة واحدة شفافة ما فوقها يشبه ما تحتها، فلا يخفي شيئا داخل تصريحاته ولا يلون اللغة إلا من خلال العمل على إجادتها وليس قلب معانيها..

ظل صريحا وصراحته دفعته إلى ألا يقول علنا إلا ما يعتقد، وجعلته يميل إلى قلة التصريحات أو الظهور في وسائل الإعلام بطوعه.. وهو لا يؤمن بالاستعراض أو المباهاة ولا يستعجل الحصاد أو جمع الغنائم.. ولا يقدم لشعبه ما يشغله عن الحقائق من خلال انتصارات مزعومة، لا يحب أن يقول عن نفسه ولكنه يعتقد ان ما يقوله عنه من يؤمنون بخطه هو الاصوب والاسلم، لذا يترك مسيرته للتاريخ حتى يجري تقييمها..

في كل معاركه التفاوضية والميدانية وقراراته الهامة والمصيرية كان صادقا ومنسجما مع نفسه.. وكان يخدم رؤيته بالكتابة عنها باستمرار فهو يكتب ما يعتقده أو يؤمن به، سواء أكان ما يكتب جاء وقت نشره والافصاح عنه أم لم يأت، ولديه أنه ليس كل ما يعلم يقال وليس كل ما يقال جاء وقته وحضر أهله، آخذا بالحكمة التي قال بها علي بي أبي طالب "إن لكل مقاما مقال..".

حظي باحترام المحترمين من قادة العالم لصدقه وإمساكه بالحقيقة وحرصه عليها ولإيمانه بالسلام عقيدة وسلوكا وثقافة ورؤية، وقد أفرغ ما يعتقده في كتبه فقد ظل شاهداً على مسيرة شعبه التي وظف لها عقله وقلبه وقلمه وأوراقه.. كان يبتعد عن الرطانة والجدل والهرج والمرج ليجلس حيث الهدوء ويدون ويكتب ما يعتقده، وإن لم يكن وقته لأنه كان يدرك أن مسيرة شعبه تاريخية وهامة وأنه سيأتي اليوم الذي ستقرأ فيه الاجيال الفلسطينية الطالعة هذه المسيرة التي اعترى جوانب منها شهادات لم يحالفها الصدق والدقة.. أبو مازن ذاكرة فلسطينية حية مترامية واعية انتشرت في كتبه التي زادت عن المئة والتي حصرت منها حوالي (25) كتابا فقط، وهناك العشرات منها ما زال مخطوطاً أو غير مسموح حتى اللحظة بقراءته، وكتابات أخرى عديدة في مواقف هامة خرج فيها على السرب ليؤكد الصدق والموضوعية، خاصة في تلك المواقف التي تحتاج إلى صدق ونقد، خاصة في منعطفات خطرة وهامة مثل احداث عام 1970 في الاردن، وما تلاها ومثل زيارة الى الاردن بعد انقطاع في العلاقات عام 1976 ومثل موقفه من القرارات المتعلقة بفك الارتباط الاردني مع الضفة، وهي مواقف امتاز فيها عن المواقف الفلسطينية العامة او حتى مواقف القيادة الفلسطينية فالرجل الذي يستشعر دائما انه قائد لا يخشى أن يقول الحقيقة..

أبو مازن لم يكن في حياته "معجوقاً" فقد عاش حياته بتفاصيلها العائلية والفكرية والثقافية والتعليمية والكفاحية، وشهد أخطر القرارات وتحمل المسؤولية ولم يستنكف عن تقديم رأيه حين يكون الرأي ثميناً ومكلفاً..

دافع عن رفاقه حين استهدفوا وأبرز اجتهاداتهم الصائبة ولم يصطد في أخطائهم وكان دائما يسعى بينهم بالخير ويجمع شتاتهم ويبادر إلى ما يبني ويعلي البناء..

لا يؤمن بالفكر الانقلابي ولم يمارسه ولا بالفزعة، ولم يبن عليها وكان يشغل عقله باستمرار ولا يؤمن بتسريحه أو تغييبه مهما بلغت الحالة العاطفية أو حتى في الخوف حين تبلغ القلوب الحناجر..

يتعامل مع الاحداث بوقار وهدوء ولا ينفعل إلا حين يرى أن الحق يغيب، أو أن هناك من يدلسه ويريد تزييفه.. يرغب أن يظل مدنياً حتى وهو يتخذ قرارات عسكرية ويحافظ على مدنيته في السلوك والمظهر والمخبر.. وهو أنيق ويحب الأناقة ويعلي من شأن ربطات العنق ويختار أفضلها مما يناسبه في مناسباته ومراحل عمره.. يحمل روح فنان وقلب فنان، يساعده كثيرا على فهم الحياة والتوازن معها، وفيها وقد سمعته يقول "لو لم أكن في موقعي هذا واتمنى انني لم أكن لكنت فناناً، فقد منعني والدي من دراسة الموسيقى واستكثر علي أن اقتني عودا".. ولذا فإن أبو مازن يفرغ حبه للموسيقى والفن في العناية بالفنانين والحرص على تقديرهم وإدماجهم في مجتمعاتهم باحترام والاستماع لطلباتهم، ويرى أن الثقافة رافعة حقيقية من روافع النضال، ولذا لم يستنكف أن يخصص قصر إقامته المقترح ليكون بيتاً للثقافة واحتضانها بكل معنى الكلمة..

في الأروقة المغلقة يتمتع بشجاعة، وقد عبر عن ذلك بجرأة في كثير من المواقف الحاسمة اثناء محادثات كامب ديفيد الفلسطينية الإسرائيلية عام 2000، خاصة حين تعلق الأمر بالقدس وأراد الرئيس الراحل عرفات إفتاء سياسياً !!

يعيش الرئيس عباس فصول حياته وأيامه ولا يخلط حتى يقال عنه ثوريا أو مميزا، فهو يعطي لنفسه حقا في الراحة والعمل والعائلة ويحفظ حق شعبه عليه ويعطيه الاولوية من وقته وجهده دون أن ينتظر شهادات مفرطة في مدح مواقفه..

وهو متواضع حيث يجب أن يكون التواضع.. وذو أنفة وترفع حين يكون ذلك من لزوم خدمة شعبه العظيم الذي أمرّه عليه واختاره لقيادته.. مدركاً أن شعب التضحيات هذا، والذي لديه قوائم من شهداء لا تنتهي، يستحق من يرفع له الاسم ويحفظ له العنفوان والكرامة والإباء..

فيه معرفة بالعادات والتقاليد واللهجات، فالرجل ما زال يحفظ طرقات صفد الضيقة ولهجتها ولون ثياب نسائها وهيبة مسجدها الجامع، وحتى طبخات الخالات والجدات وفن صناعة المجدرة، وما زال اصدقاؤه في الحواري القديمة من صفد وهو ما زال في المدرسة الابتدائية على مختلف اديانهم قريبين من نفسه ويتذكرهم، فهو لا يميز فيهم بين دين ودين أو عقيدة وعقيدة، وحتى حين توجه إلى الارض العربية بما رحبت بعد النكبة أظهر لمن حل في ديارهم زائرا وعاملا موظفا إباء الفلسطيني وحرصه على اتقان عمله وأهليته للائتمان على ما يؤتمن عليه..

حمل فلسطين في قلبه ومشاعره ولم تحل قسوة الحياة أو شدتها لإسقاط الانتماء الى فلسطين في نفسه ولذا ظلت بذرتها حية في وجدانه وظل يعمل على زراعتها في كل ارض يصلها، دون استعداء او كراهية، بل بالحوار والاقناع، مدركا انه "لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"..

لم يختلف مع رفاقه في التأسيس حد كسر العظم، بل كان يجد لقولهم واعمالهم ما يجعلها في السياق الوطني وما يجعلها قابلة للاجتهاد، ومهما كان تباعدها عن رأيه، وهنا يمكن معرفة مواقع التلاقي أو الافتراق بينه وبين الراحل عرفات او حتى ابو اياد او ابو جهاد.. فالرجل مدرسة ورؤية قد تقترب أو تبتعد، لكنها تظل تجتهد في خدمة قضية شعبه..

يتقن أبو مازن الكلام كما يتقن الكتابة، ويتقن الاستماع والصمت كما يتقن استغلال الوقت ويرى الكلمة مسؤولية، فلا يضعها الا حيث يجب أن توضع، ويرى أنها أمانة فكيف به وهو يقدمها في قضية مقدسة وباسم شعب بأكمله..

قلت بداية ليس صعباً الكتابة عن أبو مازن ولكن الصعوبة هي في كيف نكتب عنه؟ ومن أي منظور نتناول هذه الظاهرة أو المدرسة، ورأيت أن الكتابة عنه هي به وهذا ما ينجي من الخطأ الجسيم أو يخفف الخطأ إن وقع، فللرجل أكثر من (226) خطابا سوى المقابلات والتصريحات، وهذه الخطابات تقع فيما لا يقل عن ثلاثة آلاف صفحة.. كان علي أن أقرأها رغم تكرار المضامين والإشارات والقضايا لأرصد التحولات في مواقفه وبلورتها وأقف عند تميز رأيه وعند إمساكه برؤيته ودفاعه عنها.. فأنت لا تستطيع أن تحيط بأبو مازن إلا إذا قرأته بهدوء وموضوعية وحياد في خطاباته وكتبه ما نشر منها وما لم ينشر، لتدرك عمق رؤيته ليس في التجلي السياسي فقط، إنما حتى في الوجداني والنفسي والثقافي والاجتماعي..

ساعدني على فهمه الاقتراب منه والجلوس معه وطرح الاسئلة عليه ومعرفة ردود فعله على ما أكتب أو أقول، وقد أستأنست أنه يشجع الحقيقة ويبحث عنها، وأنه لا يفتري عليها حتى لو كان الافتراء منجيا إلى حين..

سأغامر واكتب عن أبو مازن وقد اخترت لهذه الكتابة عنوانا أعجبه وهو "طول المراس في تجربة الرئيس عباس"، ولا أعرف إن كنت أدرك منه عنه في كتابتي ما يبرر مغامرتي أو يحفظ لي حسن النية وصدق المقصد، أم أنني سأعود بخفي حنين أو كناطح صخرة أو "غارف بحر بطاقية" كما يقولون..

ما سأكتبه محاولة للفهم واقتراب من خضم عرم ومحاولة لركب المركب الصعب وتنكب الوعر، فتعقيدات القضية الفلسطينية وسوء ظن الكثيرين بمن يعملون فيها وعليها لا يترك مساحات واسعة للصدق والشجاعة لأن نقول دون أن نجرح ودون أن يشهر الكثيرون ممن انعدمت لديهم الرؤية أو الحياد بما نقول...

إنها محاولة لوضع شيء عن الرجل ومنه على الورق، علّ هناك من يأتي ليعيد إنتاج ما أقدمه بصورة أفضل وأوضح وأكثر إتقانا.. فمراس الرجل وطول تجربته يحتاجان إلى عمل أكبر وأهم ليبدوا في المتناول..