عصام بكر - النجاح الإخباري - الطفل علي أيمن نصر ابوعليا من بلدة المغير الى الشرق من مدينة رام الله الذي كان سيطفئ شمعته الخامسة عشرة من عمره الذي لم يستمر طويلا حلم خلاله بالكثير، وهو يشق طريقه نحو مستقبله، متطلعا لبناءه وسط ابناء قريته، وبين اترابه، ومع زملاء الطفولة، والمدرسة بين حارات بلدته التي احب، وفيها مشى اولى خطواته لتحتضه شهيدا في عيد ميلاده ذات اليوم الذي لم يتمكن فيه حتى من معرفة ما حضرته له الام من مفاجأة حين تمتمت بكلمات غير مفهومة، وهي تودعه تحدق في عينيه لاخر مرة بينما ستحتفظ، وتحمل ذكريات لا تنتهي من احزانها.

بكاء صمت الام اكثر جزالة، واكثر عمقا من اي معنى ولا يضاهيه احساس اخر في هذا العالم، الام المكلومة بفقدان الابن، وهي تنظر لملابسه، غرفته، دفاتر المدرسة، قمصان الفرق الرياضية العالمية التي علقها بعناية على جدران الغرفة، سريره، اصدقاء الطفولة كيف ستتفحص وجهوههم بعد اليوم؟ ابناء الجيران؟ مخدته؟ التي نام عليها ليلته الاخيرة كل ما تختزله الذاكرة من معاني الامومة، ومشاعر الحب يأتي دفعة واحدة، والشوق لاحتضان الابن تسأل نفسها رافضة ان تصدق: ما الذي جرى؟ هل ذهب كل هذا الى غير رجعة؟! هذا هو السؤال الأصعب: ألن تتمكن من رؤيته يلهو عائدا من المدرسة او من ملعب كرة القدم؟ ونادي القرية؟ ولن يتمكن علي من تناول رغيف خبز الطابون الذي تعود ان يأخذه معه يوميا ليتقاسم مع صديقه احمد الزيت والزعتر؟ وسيكون مقعده في الصف العاشر فارغا بعد اليوم سوى من ذكريات تعج بها ساحات المدرسة لشقاوة الطفولة؟ وأيام الدراسة وحارات البلدة؟

وماذا عن وجع الاب الذي يعمل في البناء بعرق الجبين ليؤمن لأسرته احتياجاتها على امل تحقيق الامنيات، وان يزهو بهم وقد وصلوا الى ما يحلمون به من نجاح واستقرار؟!

في عيد ميلاده الخامس عشر يرتقي ابوعليا شهيدا جديدا هو الثامن من الشهداء الاطفال هذا العام من بين 45 شهيدا اضافة لاربعة شهداء داخل السجون ما زالت سلطات الاحتلال تحتجز جثامينهم لينضم علي الى قافلة الشهداء بينما كان يسترق النظر اثناء المواجهات التي اندلعت عقب اقتحام الاحتلال للقرية بعدد من الجيبات العسكرية، وهي طالما تتعرض للاقتحامات، واعتداءات المستوطنين المتكررة، واقتلاع الاشجار، وترويع السكان الآمنين، لم يرتكب علي ذنبا سوى انه استطلع ما يجري حتى يباغته جندي حاقد برصاصة هذا القناص الذي يمتهن القتل، الجندي المشبع بالموت، والكراهية تعود حصد الارواح البريئة باعتبارها " تسلية " لا يعيش الا على نزعات الكراهية، والحقد الاعمى، والتطرف، وكأن ارواحنا غير مهمة وفق ما يتلقى من تعاليم عنصرية، فعملية القتل تشبع شهوة متأججة في دواخلهم لممارسة المزيد من القتل - القتل العمد مع سبق الاصرار - فما يضير اذا كان علي او غيره هو الهدف لرصاصة يقنع بها هذا الجندي نفسه، ويعود مزهوا فخورا بما صنعت يداه امام زملاء كلهم يمارسون ذات اللعبة لعبة الموت، وصناعة القتل بحق اطفالنا، وابناء شعبنا .

علي صرخة جديدة توجهها بلدة المغير المجبول ترابها بدم الشهداء، وهي صاحبة الباع الطويل، التي لم تبخل يوما بالعطاء. تميزت هذه القرية بالاقدام جيلا بعد جيل يتربى على حب الوطن ليكون علي صرخة للإنسانية لتوفير الحماية من بطش، وظلم الاحتلال تشق الافق لضمير العالم كي يستفيق، ويرى ما يجري ودمه بمثابة مناشدة من اجل فتح تحقيق دولي في مسلسل القتل الذي يمارسه الاحتلال وسط اسئلة ثقيلة تزخر بها الذاكرة لماذا هذا الصمت المطبق تجاه ممارسات الاحتلال؟!

أما آن الأوان لمحاسبة دولة الاحتلال على هذه الجرائم؟! فعلى قاعدة "من امن العقاب ساء الادب" يتواصل هذا المسلسل الدامي الذي يبدو لا نهاية مرتقبة له بل على العكس الخشية ان يتصاعد، ومرشح للمزيد من الاتساع في ظل الدعم الذي يلقاه، وامام موجات التطبيع، وكأن دولة الاحتلال تكافأ على جرائمها بدل ادانتها، وبدل اتخاذ مواقف، وخطوات لوقف ما تقوم به من ممارسات تمثل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي .

محمولا على الاكتاف، ودموع الاصدقاء، والأهل، وابناء شعبه مجبولة بحبات المطر، وغيوم كانون الداكنة التي انهمر غيثها لتؤكد ان الارض ليست بعاقر بل هي مستعدة لتنبت اشجارا تكسو قمم جبال بلادنا وورد شقائق النعمان يشق التراب، ويتفتح على قبر يضم طفلا رائعا وديعا لم يقترف ذنبا بل هو ضحية، وهم المذنبون الآثمين هو ضحية جندي حاقد ضغط الزناد ليحصد حلمه الغض في يوم ميلاده ليحتفل الاصدقاء بميلاده القادم لحظة انعتاق شعبه من نير الاحتلال.. حسرات ووجع يسكن المكان لهذا الفراق الصعب، وهذا التشييع المهيب لشبل سقط لتبقى جذوة النضال متّقدة ليرسم معالم الطريق على طرق الاستقلال .

وسط درب الآلام في اعياد الميلاد مضى علي ليذكر الناس ان هنا شعب يموت لا لشيء الا لاحقاد تحركها ايديوجيا الموت، ونفي الاخر، وكأنه يؤكد ان الميلاد قادم صحيات، وهتافات الغضب التي اختطلت معها مشاعر المشيعين الذين حملوا الجثمان من مجمع رام الله الطبي حيث فارق الحياة بعد فشل الاطباء في انقاذ حياته ملفوفا بالعلم الفلسطيني شقت تلك الصرخات المسير ليستقر به المطاف ليحتضنه تراب المغير، شبلا جديدا يوارى الثرى تاركا خلفه احلاما لن تنتهي بانتهاء حياته كما يظن من قتله بل سيحملها جيل كامل يحمل الراية يؤكد من خلالها تمسكه بالحياة رغم الموت الذي يقطف الزهور، سيكون عمر الشهيد الطفل ابو عليا اكبر من عمر المحتلين فشعبه سيخلده في صفحات لا تنسى، وشعبه وفيّ أصيل.. يدفن الشهداء نعم ولكنه لا ينكسر ويعود محملا بالامل، وصناعة المستقبل.. يذرف الدموع بسخاء نعم، لكنه لا ينسى ابدا، ولا يتنازل عن حقوقه مهما كان الثمن باهضا .

نقلا عن صحيفة القدس