عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - يقول الاقتصادي الإسرائيلي "غوتفين": منذ استلام "الليكود" الحكم، تبنى النيوليبرالية، بكل ما يتبعها من تقليص في الخدمات، ومن تخلي الدولة عن واجباتها تجاه السكان، ومن بيع القطاع العام للقطاع الخاص.. وكان الهدف الأول من ذلك إلغاء الامتيازات التي كانت تحصل عليها النقابات العمالية، ومجتمع العمال؛ كان الهستدروت يمتلك ثلث اقتصاد الدولة، وأحد أهم أركان قوة "المعراخ"، والقلب النابض لدولة الرفاه، التي تؤمن للسكان خدمات مميزة في مجالات التعليم والصحة والثقافة والرياضة وغيرها، وبالتالي فهي وجمهورها القاعدة الانتخابية لحزب العمل، لذا كان واضحا أن هدف "الليكود" تحطيم هذه القاعدة، وحرمان حزب العمل من قاعدته الجماهيرية، حتى يضمن عدم عودته للحكم في الانتخابات القادمة. 
في السنوات 1977-1984، كانت الخطوة الأولى في مسار تدمير دولة الرفاه، إلغاء الرقابة على العملة الصعبة، والسماح بتبديل العملات.. نتج عن ذلك تدفق كبير للأموال، ومن ثم بدأ التضخم.. في السنة الأولى من حكم "الليكود" وصل التضخم إلى 42%، ثم وصل في العام 1984 إلى 444%، أي عشرة أضعاف.
تمثلت الخطوة الثانية في إلغاء الدعم عن السلع الأساسية، مثل الخبز والحليب والبيض وغيرها، وتعويم الأسعار وفق قانون السوق الحر، فارتفعت الأسعار، وتوقف دعم الصناعات، ما أدى إلى إغلاق عشرات المصانع، وارتفاع نسبة البطالة، ثم رفعت قيمة الضريبة المضافة من 8%، إلى 12%. وفي الخطوة التالية، رفعت نسبة الفائدة الأمر الذي أضر بمدخرات المواطنين.
في خضم هذه الأزمة الاقتصادية خاضت إسرائيل حربها العدوانية على لبنان (1982)، وفي هذه الأثناء لجأ المواطنون الخائفون على مدخراتهم إلى البورصة، والتي أصبح لها دور مركزي.. ولكن، في شهر كانون الثاني 1983 انهارت بورصة تل أبيب فجأة، وخسر المدخرون أموالهم.. وعلى ضوء انهيار البورصة لجأ المواطنون إلى الأسهم البنكية كخيار أخير؛ باعتبارها منظمة ومضمونة من البنك.
في آب 1983، وتحت وطأة الأزمة السياسية والاقتصادية استقال "بيغن" من منصبه، بعدها بشهر انهارت الأسهم البنكية، وأفلست بعض البنوك، وأغلقت البورصة، ودخلت إسرائيل مرحلة من الفوضى الاقتصادية.
في العام التالي 1984 كانت ميزانية الصحة والتربية قد تقلصت إلى الثلث، الدين الخارجي تضاعف من 10 مليارات دولار، إلى عشرين مليار، وزاد عدد الأسر الفقيرة من (20530) أسرة، إلى (134500 أسرة).
في نفس العام، تشكلت حكومة وحدة وطنية (الليكود والعمل)، من أجل إنقاذ الاقتصاد، ووقف التضخم. وبالفعل توقف التضخم، واستقرت الأسعار، ما يدل (والكلام لغوتفين) أن الحكومة هي التي افتعلت التضخم، وهي التي أوقفته، ضمن سياسة ممنهجة. ثم قررت الحكومة تقليص الموازنة العامة، وبالتالي تقليص الخدمات، وتقديمها سيئة ومنقوصة.. وبحسب غوتفين كان الهدف من ذلك تهيئة الرأي العام لتقبل فكرة إحلال القطاع الخاص مكان الحكومة، لأنه سيقدم خدمات أفضل.
ثم واصلت حكومة رابين مسلسل الخصخصة، فقامت ببيع 17 شركة حكومية، مع أنها كانت تحقق أرباحا عالية. أي أن الخصخصة لم تكن بهدف إنقاذ الاقتصاد، بل لأسباب أيديولوجية لها علاقة بالنيوليبرالية.
لم يكن في إسرائيل، سنة 1977، أرباب عمل، ورؤوس أموال مؤهلة لتقود عملية الخصخصة.. لذلك، تأخرت الخصخصة.. ما يعني أن أحد أهم أهداف النيوليبرالية، من خلال الخطوات التي نفذتها الحكومة لتدمير دولة الرفاه هو خلق طبقة برجوازية بمقدورها إنجاح عمليات الخصخصة، تلك الطبقة مكونة من عدة عائلات ثرية، مثل عائلة دنكنر، عائلة عوفر، عائلة أريسون، إسحاق تشوفا.
وكدليل على تواطؤ الدولة مع تلك العائلات الثرية، ما حصل في قضية بيع بنك العمال، وهو أكبر بنك إسرائيلي، حيث اقترضت عائلة دنكنر مبلغ 1.4 مليار شيكل من بنك لئومي، وبنفس المبلغ اشترت بنك العمال، دون أن تحضر شيكلا واحدا من البيت.
بالرغم أن النيوليبرالية تؤذي وتضر الطبقات الضعيفة، إلا أن هذه الطبقات هي القاعدة الانتخابية لحزب "الليكود" الذي يقود النيوليبرالية! وهذا أمر لافت للنظر، ولذلك، ومن أجل تفادي خسران تلك القاعدة الشعبية العريضة من الطبقات الفقيرة، لجأت الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة إلى وسيلتين:
الأولى: آلية تقسيم المجتمع إلى قطاعات.. ولفهم كيفية ذلك، لنتذكر أنه في الجانب الآخر السلبي لدولة الرفاه، كان الاقتصاد الإسرائيلي مغلقا ومحصورا، وثمة قطاعات واسعة لم تكن تشعر بالانتماء لهذا الحزب ومنجزاته، خصوصا اليهود الشرقيين، وسكان الضواحي.. وهذا ما اشتغل عليه واستغله حزب "الليكود"، وبقية أحزاب اليمين، خاصة "شاس".
فبدلا من دولة تقدم الخدمات للجميع، تحوّل الحكومة النيوليبرالية تلك الخدمات إلى بضائع، لا تستطيع الطبقات الفقيرة الحصول عليها، وحتى تتمكن تلك الطبقات الفقيرة من الحصول على بدائل لتلك الخدمات ينتظمون في أحزاب قطاعية ("شاس" لليهود الشرقيين، أحزاب دينية للحريديم، أحزاب صهيونية للمهاجرين الروس..)، ويدور صراع تلك الأحزاب والقطاعات على بقايا ما تمنحه الدولة.. كما تسعى تلك الأحزاب لسد الفراغ الذي ينجم عن تخلي الدولة عن واجباتها فيه، أي تنشط في الأطراف والضواحي والمناطق التي لا تصلها خدمات الدولة، وتقدم نفسها بديلا عنها، وتعدهم بحل مشاكلهم، بشعارات كبيرة، بخطاب شعبوي، يركز على الروح المعنوية، والخطاب الآخروي، ويعزز ثقتهم بأنفسهم.. ومع أن ذلك كله لا يغدو عن كونه أوهاما وتمنيات، إلا أن النتائج تدل على نجاح هذه الآلية.
الآلية الثانية، هي الاستيطان؛ وقد ترافق نمو الاستيطان مع سياسات النيوليبرالية، وكلما تقلصت خدمات دولة الرفاه، زاد البناء في المستوطنات، ففي السنوات (1977-1984) تم بناء 80 مستوطنة، وزاد عدد المستوطنين من 6 آلاف إلى 622 ألفا (2019).
والمستوطنون يعيشون ضمن ظروف مرفهة لم يكن ليحلموا بها داخل الخط الأخضر، فكل ما تم تقليصه داخل الخط الأخضر، يُدفع بسخاء في المستوطنات، وبمجرد أن ينتقل اليهودي للعيش داخل المستوطنات يتحول تلقائيا إلى داعم وناخب لقوى اليمين. وهكذا، صار الاستيطان أداة تعويضية عن سقوط دولة الرفاه اليهودية.
في هذا الإطار تبلورت طبقة واسعة من المستوطنين، الذي ربطوا مصالحهم الطبقية بالنظام النيوليبرالي، حيث صار البرنامج الاقتصادي للأحزاب اليمينية عماده "النيوليبرالية"، وهذا ما يفسر زيادة وتوسع الاستيطان بخط تصاعدي منتظم منذ بداية التسعينيات؛ حيث تحول الاستيطان من أحد أدوات السياسة النيوليبرالية، إلى أحد أهم مصادر قوته السياسية والاقتصادية.
وكان التعبير الأبرز عن كل ما يحدث من انزياحات هو انكماش الكيبوتس، واختفاؤه، وتوسع المستوطنة، وهيمنتها.

الايام