الخليل - بيسان الزبدي - النجاح الإخباري - بابٌ أقفله الصدأ، يتوسط سوق الخضار في الخليل العتيقة، تدخله ليستقبلك عبقٌ من التاريخ والقدم نُقِشَ حجراً حجرًا، من اللحظة الأولى تتسلَّل رائحة الحياة الممزوجة بالموت لأنفاسك، لتجد ذلك الستيني بشعرة الذي اكتسحه الأبيض خلاف أيامه، محمد صادق اقنيبي (أبو عماد).

 منذ عشرين عامًا يتربع في ساحة منزلة، المسقوفة بأسلاك شائكة، لتتقيه شرّ جيرانه من المستوطنين.

الحياة والموت خطان متوازيان، يتقاطعان عند أبو عماد، يرسمان بمرّهما أحداثًا طبعت خطوط وجهه، ما بين الاعتقال،والضرب، والإغلاق، والترهيب، تنوَّعت الطرق والغاية واحدة، فيقول لـ"النجاح الإخباري": "منذ سكنت البيت وأنا في حرب مع المستوطنين، يقولون إنَّ هذه بيوت إبراهيم والخروج منها هو السلام "، بتنهيدة أسدلت ما علق في الذاكرة من معاناة، كان أصعبها في نظر أبي عماد عندما أغلقوا بيته كاملًا باللحام، عام (2008) فلجأ لساحة بيته هو وأبناؤه شهرين كاملين، ليعود ويفتحها بنفسه فيما بعد.

أما سَطحُ المنزل فبات أكبر مخاوفه، إذ تحوَّل بشكل مفاجئ  مضافة للمستوطنين، يقول: "يتجمّع المستوطنون على سطح البيت، ويتفاقهم الألم والوجع والأذى حين يرموننا بالحجارة والزباله، ولولا هذا الشيك كان الوجع أكبر.

أما ذلك الباب الموصل للسطح، بوابة لكوابيسه الليلية، وخوف يؤرق نومه، فلا أمان من زائريهم الليلين ولا من غدرهم الوشيك، إلا أنَّ سلامة أبنائه همّه الوحيد، فما كان منه الا أن يحول فراشه لمقرِ حراسةٍ ليلية، ويقول: "يومياً بالليل بنشوفهم داخل البيت، وأنا طول الليل سهران وفراشي بنص الساحة، بخاف يحرقونا أو يسمّموا الميَّة دون أنتباهنا".

وجع غطى العائلة كاملة، فالأم التي تستشعر أنفاس جنينها تتلاشى بداخلها، فما كان ذنب طفلها سوى هوية أمه، فاطمة اقنيبي، كانت تنتظر بلهفه احتضان طفلها لكن لم يكتب لها ذلك، فتروي عيونها الوجع قبل لسانها وتقول: "عام(2011)، كنت بأواخر الشهر التاسع، أجلس في ساحة البيت، فجأة ألقوا من السطح قنبلة، فأصابتني وشعرت بابني يموت بداخلي، وبعدها لم أستطع الإنجاب مرَّة أخرى"، خسرت طفلاً وهواجس خسارة أخرى تلاحقها كظّلها.

ثلاثة بيوت مجاورة لبيت اقنيبي استولى عليها المستوطنون، فحاصروه من ثلاثة جوانب، وبيته آخر ما تبقى في محيطه، فبات أشبه بثكنة عسكريَّة، شلَّت حركة اقنيبي وحالت دون تأمينه قوت أطفاله، ليختزل الحال بقول: "نحن نعيش من قلّة الموت"، ويكمل "وجع القلب لما ابني يطلب مصروف وما أملك أعطية".

حزن يعتصر قلبه لما آل إليه حال أبنائه، فتلك الصدوع التي شقَّها الخوف في نفوسهم، تحول دونهم والحياة، ففراش الصغيرة المبلل بالخوف كابوسٌ يومي، وابنته الكبرى عزيمتها حالت والأرض، أما أوسطهم ابن الـ(14) عامًا أعتقل أكثر من مرَّة، ومطالباته لوالده بالرحيل لا تتوقف، لكن عزيمة الوالد لا تتوقف أيضاً "أنا بثبت فيهم العزيمة، هذه أرض أجدادنا وهذا البيت لكم من بعدي، وصمودكم فيها له أجر كبير".

حال يستعصي على الترويض، ولا مساعدات تدعم ثباته، ورسالته صدحت بأبسط متطلبات العيش علّ صداها يحدث فرقاً، فيقول:

"(صرارة تسند قلعة)، لو دعم بسيط لأولادي الصغار بس لأقدر عيش وأصمد هون".

اختلطت الرائحة، لكن عبق أجداده طغى، فغمر قلبه، وتراثهم الذي احتلَّ المكان، وحجارة منزل تأبى الرحيل، اختتم حديثه: "ما يفرحني في هذا البيت هو رائحة أجدادي، وهذه الحجارة هي تراثهم، إذا بدي اطلع منه بس بالكفن".