الدكتور محمد السعيد إدريس - النجاح الإخباري - الإسرائيليون باتوا مضطرين لمراجعة حساباتهم مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعليهم أن يقرروا هل هذا الرئيس «نعمة لإسرائيل» على نحو ما كانوا مقتنعين بناء على تطابق رؤيته الشديدة مع الرؤية الإسرائيلية ومشروع اليمين الإسرائيلي المتطرف بخصوص ما درج على تسميته «عملية السلام» بدليل أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي قرر ونفذ رغبة هؤلاء المتطرفين بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، أم أنه «نقمة على إسرائيل»؟.

هذا السؤال أخذ يفرض نفسه بجدية هذه الأيام، ليس فقط بسبب الصراع الحاد الراهن بين الرئيس الأمريكي وبين الكونجرس وهو الصراع الذي يضع إسرائيل في موقف شديد الصعوبة بين الرئيس والكونجرس ويجعلها بين خيارين معقدين؛ إما أن تكون مع الرئيس وتخسر الكونجرس، وإما أن تكون مع الكونجرس وتخسر الرئيس، لكن هناك أيضاً سببا آخر وهو أن الرئيس ترامب هو الذي استطاع، دون أن يقصد، تعرية زيف إسرائيل من ناحية كونها القوة الإقليمية العظمى في الشرق الأوسط القادرة على تهديد الجميع، وفرض كل ما تريده.

لقد نجحت إسرائيل، بجدارة، في أن تروج لأسطورة تفوقها العسكري وامتلاكها «قوة الردع المطلق»، وحققت نجاحات مبهرة، من الناحية العملية، من جراء ذلك، أبرزها أنها استطاعت أن تلحق الهزيمة المعنوية بجماعات غير قليلة من النخب العربية الحاكمة والمثقفة اقتنعت بمقولة إنه «لا طائل أمام العرب من الاستمرار في مناطحة إسرائيل»، وإن «إسرائيل قوة لا تقهر»، وبعد هذا كله يجيء الرئيس الأمريكي الآن، الذي اعتبرته إسرائيل «نعمة أرسلتها السماء»، ليبدد كل هذه الأساطير، ويؤكد أمام العالم كله أن إسرائيل «مجرد محميّة أمريكية» عندما أعلن قبل أسابيع قليلة أن السبب الأساسي للوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط هو «لحماية إسرائيل».

لم تفق إسرائيل بعد من هول هذه الصدمة، ولم تستطع بعد أن تتوصل إلى ما يمكن اعتباره «ردا إستراتيجيا» على الرئيس الأمريكي: هل تكذبه وتؤكد أنها قوة إقليمية كبرى بقدراتها وتفوقها الذاتي دون حاجة لعون الآخرين ومن ثم تعرض نفسها لخسارة الدعم الأمريكي الذي هو أصل قوتها، أم تؤكده، ومن ثم تخسر مؤهلات تنافسها على الزعامة الإقليمية. من حظ إسرائيل العاثر، أنها وفي غمرة هذه المتاهة، جاءتها الصدمة الأكبر ومن الرئيس الأمريكي أيضاً، عندما أعلن ترامب قراره الجاد هذه المرة بالانسحاب فعلاً من سوريا.

قرار الرئيس ترامب أعلنه الأربعاء (19/12/2018)، وفي اليوم التالي أي الخميس (20/12/2018)، فاجأ وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس رئيسه، بقرار استقالته، قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا أربك الجميع، الأعداء قبل الحلفاء، جاء مباغتاً للأعداء الذين لم يرتق طموحهم إلى هذا المستوى خاصة: روسيا وإيران وسوريا، وتركيا بالطبع، أما الحلفاء فكانت الصدمة هي رد فعلهم. لكن صدمة إسرائيل كانت شديدة القسوة باعتبارها أهم الحلفاء المعنيين بدفع أثمان هذا الانسحاب، فعلى الرغم من أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لم يتجاوز الـ 2200 عسكري ومدرب، لكن تموضع تلك القوات الأمريكية في موقع جيو- ستراتيجي في شرق الفرات على تماس مع الحدود السورية مع كل من تركيا والعراق، ووجودها الممتد من شرق الفرات في الحسكة والرقة ودير الزور إلى منطقة التنف بين الأردن وسوريا والعراق، جعل الولايات المتحدة طرفاً محورياً في الصراع داخل سوريا، وجعلها طرفاً في تحديد معالم المستقبل السوري خصوصاً فى ظل اعتمادها على وكيل كردي محلي له حيثيته وهو «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تمثل شوكة في خاصرة الأمن التركي، وعقبة فى طريق السلام أمام المشروع الروسي المدعوم إيرانياً وتركياً.

لذلك كان هذا الوجود صمام أمان لحلفاء واشنطن خاصة إسرائيل، وبعض الحلفاء العرب، من منظور تحجيم الدور الروسي في التسوية السياسية بما يتواءم مع مطالب هؤلاء الحلفاء وشركائهم من فصائل المعارضة السورية، ومن منظور تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وقطع طريق إيران للوصول إلى سوريا ولبنان برياً عبر الأراضي العراقية. لذلك كله وجدت إسرائيل نفسها مرتبكة أمام هذا القرار الأمريكي، وأضحت أمام أحد خيارين شديدي المرارة أما أن تظهر انزعاجها من القرار الأمريكي، وتؤكد بذلك حقيقة أنها فعلاً مجرد «محمية أمريكية» وأنها غير قادرة على حماية أمنها ومصالحها بقوتها وقدراتها الذاتية، وإما أن تتجاهل القرار وتتحمل وحدها صدمة التداعيات والنتائج، ويبدو أن بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة يحاول التوصل إلى خيار ثالث أقل ضرراً لكنه فشل في ذلك حتى الآن.

كل ما استطاع نيتانياهو أن يفعله هو إصدار تصريحات يؤكد فيها عزم إسرائيل على الدفاع عن نفسها والتصدي للنفوذ الإيراني داخل سوريا، تصريحات لا تحمل أي معنى بتهديد حقيقي لإيران وحلفائها داخل سوريا بقدر ما تؤكد حقيقة الضعف الإسرائيلي وبقدر ما يمكن اعتبارها مجرد طمأنة للمواطن الإسرائيلي. فقد تغيرت قواعد الاشتباك في سوريا، ولم تعد كما كانت في الأعوام الماضية بعد أزمة سقوط الطائرة الروسية «إيليوشن 29»، والآن يتأكد ذلك بعد الانسحاب الأمريكي، لأن إسرائيل كانت تراهن على قوة رادعة أمريكية تمنع إيران من الرد على ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات. هذا يعني أن موازين جديدة للقوة سوف تفرض نفسها في سوريا، ليست في مصلحة إسرائيل، لكن ليس هذا فقط فتداعيات الانسحاب الأمريكي ليست فقط عسكرية، بل هي أيضاً سياسية وإستراتيجية على ضوء ما يمكن تأكيده من «تفاهمات» أمريكية تركية تتعلق بخلفيات الانسحاب الأمريكي، وباحتمال أن تحل تركيا محل القوات الأمريكية، وما يمكن تأكيده أيضاً من «تفاهمات» تركية- روسية إيرانية تكشفت خلال الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الدول الثلاث في جنيف. وهذا ما يخشاه الإسرائيليون بناء على تخوف الإسرائيليين من أن هذه الخطوة ربما يكون من شأنها «رسم خارطة كتل جديدة في منطقة الشرق الأوسط تضر بمكانة الولايات المتحدة، وربما إسرائيل».

uk