حمدي فراج - النجاح الإخباري - على هدي ما قالته العرب قديما ، من ان "بعض الشر أهون من بعض" ، وأعادت استخدامه منظمات حقوق الانسان الحديثة، ومن بينها منظمة الصليب الأحمر العالمية ، كشعار لها بالعديد من اللغات ، فإن "القتل" – وليس القتال - له درجات ، بمعنى أن هناك ما هو أشد من القتل وأسوأ ، البعض يحاول التخفيف من وطأته بالقول الدارج : " تعددت الأسباب والموت واحد " .

عدم دفن الجثة ، يفاقم من وقع جريمة القتل ، ما أصبح أسلوبا معتمداً، إذ تحتفظ اسرائيل بعشرات جثامين الشهداء الفلسطينيين في ثلاجات صنعت خصيصا لهذا الغرض ، بحيث يصبح الهدف الأسمى للعائلات الثكلى تحرير جثامين ابنائها من هذه القبور الباردة ، وقبل الثلاجات ، احتفظت اسرائيل بمئات الجثث ، فيما أطلق عليه مقابر الأرقام ، في ثلاث أو أربع مقابر ، من بينها رفات الشهيدة دلال المغربي ، التي صادف هذا العام مرور أربعين سنة على استشهادها ، وحين اشترط حزب الله تحريرها في صفقة التبادل عمدت اسرائيل الى تسليمه رفاتا غير رفاتها .

إذن ، هناك ما هو أسوأ من الاحتفاظ بالجثمان ، حين تطول المدة الى سنوات وعقود ، فهذا يعني أن يموت الآباء والأمهات دون أن يتمكنوا من دفن أبنائهم . وعليه فإن ما كان قد تبجح به اسحق رابين في خطابه ساعة توقيع اتفاقية اوسلو "جئناكم من البلاد التي يدفن فيها الآباء أبناءهم" غير صحيح ، بمعنى ان اسرائيل ترفض ان يدفن الآباء أبناءهم ، لطالما أنها تحتفظ بجثامينهم ورفاتهم أربعين سنة .

فما هو الاسوأ من ذلك ؟ أن تتبخر الجثة ، بتذويبها بالأحماض الأسيدية ، في الماضي السحيق ، كان يتم شوائها في النار ، كما مع العالم والفيلسوف الاسلامي ابن المقفع الذي قطع والي البصرة أطرافه والقى بها في النار قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة بقوله له : "ليس عليّ في المثلة بك حرجٌ، لأنك زنديق قَدْ أفسدت النّاس".

هل هناك أسوأ من ذلك ؟ مجرد والي أو حاكم ، ربما جاهل بالكاد يفك الخط ، يقتل عالما بقامة ابن المقفع ، كم واليا أو حاكما مر على هذه الأمة ، وكم ابن مقفع بالمقابل ؟!

هل هناك ما هو أكثر سوءا من ذلك ؟ نعم . أن يعرف الناس كل الناس ، من هو القاتل ، حتى هو نفسه يعرف ، ويعرف ان الناس يعرفون . بعكس أعظم فلاسفة التاريخ سقراط الذي كان يقول : "انا أعرف الناس لانني أعرف بأنني لا أعرف" ، أعدم بالسم بتهمة الزندقة الملفقة ، لكن التهمة الحقيقية إفساد عقول الشباب ، "التحريض" بلغة اليوم ، فلما جاءته زوجته باكية قبيل اعدامه ، سألها لماذا تبكين ؟ فقالت له لانهم يعدمونك بتهمة كاذبة ، فقال لها : أكنت تريدنها صادقة ؟ فكفكفت دموعها.