غزة - عبد الله عبيد - النجاح الإخباري - "هيا مش محاولة عبث، هيا محاولة خلاص وخلص.. الشكوى لغير الله مذلة وعند الله تلتقي الخصوم"، كانت هذه الكلمات المؤلمة آخر ما كتبه الشاب سليمان العجوري (23 عاماً)، عبر صفحته على "الفيسبوك" قبل أن ينهي حياته بطلق ناري في الرأس.

وأقدم العجوري على إطلاق الرصاص على رأسه، ليلة الجمعة الماضي، داخل منزله بمنطقة "أبراج الشيخ زايد" في بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، في حين باشرت أجهزة أمن غزة بفتح تحقيق في ملابسات الحادث، كما ذكرت في بيان لها.

وأثار خبر انتحار الشاب العجوري موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط اتهامات للمسؤولين بالمسؤولية عن الأوضاع المأساوية التي دفعت شباب غزة للإقدام على حالات الانتحار.

حادثة انتحار "سليمان" لم تكن الأولى ولا الأخيرة في قطاع غزة الذي يعاني الكثير من المشكلات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي ظل انعدام فرص المستقبل ومؤشراته، جراء الانقسام الفلسطيني والحصار الإسرائيلي الذي مازال مستمراً منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وقع خلالها في ثلاث حروب مع الاحتلال الإسرائيلي، خلفت العديد من المشكلات ما زالت آثارها حتى كتابة هذا التقرير.

وشهد قطاع غزة خلال الفترة الماضية ارتفاعا في نسبة حالات الانتحار خاصة من فئة الشباب، وسُجل أمس السبت أربع حالات انتحار، لقي ثلاثة منهم حتفهم، أولهم الشاب أيمن الغول من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والذي ألقى نفسه من الطابق الخامس، وبعده الشاب سليمان العجوري، بالإضافة إلى الإعلان عن وفاة الشاب إبراهيم ياسين (21 عاما)، متأثرا بجروح أصيب بها إثر إحراق نفسه، قبل نحو أسبوع، في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، فيما حاولت شابة من مدينة خانيونس جنوبي القطاع، الانتحار قبل أن يتمكّن الأطباء من إنقاذها. حيث تنوعت محاولات الانتحار في القطاع بين الحرق وتناول السم والسقوط من علو والشنق واطلاق النار.

تجربة انتحار

وعن تجربته حول هذا الموضوع، يقول الشاب "ع. م" (29 عاماً) من حي النصر غرب قطاع غزة، الذي أقدم على الانتحار العام الماضي، بعد تناوله عشرين حبة دواء منوم، إن "الوضع الذي يعيشه قطاع غزة كفيل بأن يجعل عشرات الشباب يفكرون بالانتحار، وهناك بالفعل الكثير الكثير يفكرون بالانتحار، وإن كانوا يعلمونحرمته الشرعية".

ويضيف خلال حديثه لـ"النجاح الاخباري": "عندما تضيق الأوضاع علينا كشباب، وتغلق الأبواب كلها ليس أمامنا سوى الموت، لعلنا نرتاح من تعب وهم هذه الدنيا، ولم نلقَ أمامنا سوى الانتحار، لأن الموت قد يكون راحة لنا، لذلك نلجأ للانتحار"، لافتاً إلى أن الأسباب والدوافع التي جعلته يختار مصير الانتحار كثيرة جداً، خصوصاً في قطاع غزة.

ومن هذه الأسباب، ذكر أن انعدام أفق المستقبل أمام شباب غزة أولها، بالإضافة إلى المشكلات التي يعاني منها غالبية الشباب، من عدم توفير فرص عمل لهم ووضع اقتصادي متردٍ، وأزمات وحصار وانقسام، ناهيك عن المشكلات الاجتماعية أيضاً والاعتقالات التي تزداد منعا لحرية الرأي والتعبير من قبل الأجهزة الأمنية في غزة التي تطال العشرات من الشباب، وغيرها.

وصب جام غضبه على المسؤولين الذين يتجاهلون أمر الشباب "لأنهم هم من أوصلونا لهذه المرحلة التي نمر بها، دون التفكير حتى في حل همومنا ومشاكلنا"، داعيا في ذات الوقت شباب غزة المقهورين أن "يتجهوا إلى الله عندما يفكرون بالانتحار والصلاة والاستغفار، لأن تجربتها صعبة جداً وخوضها أصعب"، كما قال.

وسجلت محاولات الانتحار مؤخراً نسبًا عالية في قطاع غزة الذي يقطنه حوالي مليوني نسمة، مقارنة بالضفة الغربية، حيث شهد عام "2015" (10) حالات انتحار لقى حتفهم على الفور، في حين سجل في العام نفسه (553) محاولات انتحار، أما في عام "2016" فسجل (16) حالة انتحار و(626) محاولة، وفي العام "2017" (23) حالة و(566) محاولة انتحار، وفي "2018" سُجل (20) حالة انتحار و(504) محاولات، أما في عام "2019" فقد وصل عدد الوفيات جراء الانتحار إلى (22) في حين كانت عدد محاولات الانتحار (133) محاولة.

أصعب محاولة

ويعتبر الشاب "د. ل" (34 عاماً)، أن محاولته الانتحار أواخر عام 2018 كانت "أصعب تجربة" في حياته، عندما حاول شنق نفسه في بيته الذي يقطنه في حي الشجاعية شرق القطاع، بعد أن تم اللحاق به قبل أن يلقي حتفه.

ويقول الشاب العشريني لمراسل "النجاح الاخباري"، إن "فكرة الانتحار كانت تدور في بالي قبل محاولتي بعامين، بعد أن أقدمت على طلاق زوجتي لكثرة المشكلات، والتي كانت معظمها بسبب القرض الذي كان عبئاً ثقيلاً على كاهلي طيلة السنوات الماضية"، منوهاً إلى أنه تم سجنه حوالي 6 مرات، بعد أن قدم البنك الذي اقترض منه حوالي 8 آلاف دولار شكوى  ضده، لعدم التزامه في سداد الأقساط التي تراكمت عليه.

ويضيف: "قبل أن يتم إغلاق المؤسسة التي كنت أعمل بها بعد زواجي بعام، طلبت قرضاً لأشتري سيارة، وبالفعل بعد شرائي لها سددت جزءاً من هذه الأقساط في العام الأول، اما في العام الثاني فلم أستطع التسديد لقلة العمل ولزيادة المصروفات يوما بعد يوم، إلا أن تم سجني أكثر من مرة، وبعدها تم الحجز على سيارتي للبنك، وبعدها زادت المشاكل شيئاً فشيئاً إلا أن اتخذت قرار الطلاق، وأنا لدي طفلة واحدة".

هذه المشكلة بحسب الشاب "د. ل" كانت السبب الرئيس في تدمير نفسيته، واتخاذه قرار "الانتحار"، إلا أنه أشار إلى أن الوضع المزري في قطاع غزة ومشكلاته المتعلقة بازدياد معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأفق كانت دوافع مهمة بالنسبة له للإقدام على تجربة الانتحار.

ناقوس الخطر

حالات انتحار كثيرة سُجلت في قطاع غزة خلال العام الجاري والأعوام السابقة، فمنهم من وضع حداً لحياته على الفور، وآخرون فشلوا في تحقيق أهدافهم في الموت بعد أن تلقوا العلاج في المشافي، لتدق جهات مختصة "ناقوس الخطر" في هذا الموضوع، حيث تشير التقارير الحقوقية والطبية إلى أن هناك عشرات محاولات الانتحار شهريا لا يتم الإفصاح عنها.

وعبّرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، عن قلقها لتزايد حالات الانتحار؛ والتي سجلت أكثر من حالة خلال الأيام القليلة الماضية في قطاع غزة.

وحملت "حشد" خلال بيان لها، أمس السبت، الجهات الرسمية الفلسطينية المسؤولية عن تنامي حالات الانتحار؛ وذلك لإصرارها على تبني سياسات تجافيها منظومة حقوق الإنسان بما في ذلك فرض العقوبات الجماعية على قطاع غزة و تعزيز منهج الجباية والضرائب، وتهميش الشباب والخريجين في ظل انعدام فرص العمل، ومصادرة حقوقهم السياسية والمدنية، الأمر الذي عزز حالة عدم ثقة المواطنين والشباب تحديداً بالمجتمع وبأنفسهم، ما ساهم في تنامي حالات الاضطراب النفسي والاكتئاب لدى شريحة واسعة من المواطنين.

وأكدت أن السياسات والانتهاكات والجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحصار الإسرائيلي الجائر المفروض على قطاع غزة، قد لعبت دوراً واضحا في تعزيز حالة فقدان الأمل لدى الشباب في مستقبل أفضل.

من جهته، اعتبر الخبير النفسي درداح الشاعر- أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى بغزة، أن الأوضاع المحيطة بالإنسان في غزة والتي وصفها بـ"غير المريحة"، دافعاً للشباب الغزي للإقدام على الانتحار، متوقعاً ازدياد حالات الانتحار بالقطاع خلال الأيام القادمة، إذا تم تجاهلها من قبل المسؤولين، وعدم الوقوف عند خطرها.

ووفق حديث الشاعر لـ"النجاح الاخباري" فإن كل حالة انتحار لها ظروف وملابسات خاصة بها، مؤكداً أنَّ أخطر العوامل التي تدفع إلى الانتحار في غزة انعدام فرص المستقبل ومؤشراته أمام الشباب والمجتمع الفلسطيني.

وقال: إنَّ "هناك شعور عام لدى الشباب الغزيّ بالضيق والتوتر والتأزم النفسي، بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية وانسداد الأفق السياسي والانقسام، كلُّ هذه أسباب تدفع بهم إلى هاوية الانتحار".

وأضاف الشاعر: "إذا ما شعر الشاب في غزة بعدم وجود انفراجات في المستقبل القريب في الواقع النفسي أو أمل في غد واعد ومستقبل مشرق، بالتأكيد ستزداد هذه الضغوط والأعباء النفسية عليه، وبالتالي يفكر بمخرج من هذه الأزمات النفسية والاقتصادية من خلال فكرة الانتحار"، داعيًا إلى ضرورة تكاثف جهود الجميع من أجل إخراج الشباب من هذه الدائرة الضيقة التي أرهقت كاهلهم وأثقلت همومهم.

وتداول نشطاء الإعلام الاجتماعي مقطع فيديو لخطبة في أحد المساجد للداعية الفلسطيني محمود الحسنات يتحدث فيها عن ظاهرة الانتحار في غزة، متسائلا خلاله عن أسباب ازدياد حالات الانتحار في القطاع مؤخراً.

وطالب الحسنات في خطبته، العلماء وخطباء المساجد الذين أفتوا بحرمة الانتحار، أن يخرجوا للناس بفتوة حول الأسباب والدوافع التي دفعت الشباب في غزة للانتحار.

وقال في خطبته: "نحن نتفق معكم على حكم الانتحار، ولكن ألا يتجرأ رجل منهم أن يقول للعالم لماذا انتحر الشباب، ولماذا لم يجد الشاب أمامه إلا حلا واحداً وهو الانتحار؟ لماذا لا توضحوا للناس أنَّ هذا الشاب قبل أن ينتحر قتل في اليوم ألف مرة، ونحرتموه ألف مرة".

ويضيف الحسنات: "ماذا عن شاب في الثلاثين من عمره يأخذ مصروفه من والده؟ وماذا عن هذا الشاب الذي بلغ ثلاثين عاماً ولا يستطيع أن يتزوج او يعف عنه؟ لماذا تكلمتم في أمر وسكتم عن الظلم الذي جعلتم فيه الشباب ألا يجدوا في حياتهم إلا الانتحار؟

وأشار إلى أن "مئات آلاف الشباب في غزة يتخرجون من جامعات غزة يبيعون الشاي في الطرقات، ناهيك عن خريجي كليات الهندسة والطب الذين يبيعون السجائر"، موضحاً أن الذل والقهر والفقر الذي تعانيه غزة هي من جعلت الشباب يقدمون على الانتحار.

وفي ظل ارتفاع معدلات الانتحار في قطاع غزة، تُطرح العديد من التساؤلات حول معايير وضوابط العمل الحكومي والمؤسسي في القطاع وكيفية معالجتها، خصوصاً وأن هناك احتمالات بأن تشهد "غزة المنكوبة" ظواهر وأزمات متجددة إذا لم يتحرك المسؤولون لإنقاذ المجتمع، ومن يدفع ثمن هذه المشكلات هو المواطن المغلوب على أمره.