غزة - مارلين أبو عون - النجاح الإخباري - ليس بالجديد أن تعاني غزة مرارة الفقر والاحتياج وتتعايش معهما، فهي وعلى مدار الـ(12) عامًا، حالها يتبدل يومًا بعد يوم إلى الأسوأ، فنرى ونسمع قصصًا جديدة خلَّفها الفقر لكثيرٍ من العائلات الغزيّة، والتي أصبحت تترك فينا وجعًا كبيرًا.

 بكلِّ حجم وثقل كلمة الفقر، فهي خلفت ظواهر غير مألوفة في المجتمع الفلسطيني، حيث أصبح الأب يعرض أبناءه للبيع؛ لعدم قدرته على توفير لقمة العيش، وآخر تراه يعرض كليته للبيع كي يساعد أسرته على العيش بكرامة، فأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصاً «فيسبوك» و«واتس أب»، أهمّ وسائل نقل المعاناة وعرضها والتعبيرعنها بأقسى العبارات وأشدها.
وتداول ناشطون بألم وحسرة وغضب «إعلاناً» نشره أحد العاطلين عن العمل وهو أب لـ(4) أطفال، أعلن فيه نيّته بيع إحدى كليتيه لتوفير المال اللازم لأفراد أسرته بعدما عجز عن العمل، أو العثور حتى على فرصة مهما كان مردودها المالي متواضعاً.

أبو أيمن : عرضت ابني للبيع لكي يعيش
ومن أشد الصور إيلاماً هي أن يقوم أب بعرض أحد أطفاله للبيع، لأنَّه بكلِّ بساطة لا يستطيع توفير لقمة العيش لهم، فترى قسم من الناس يتعاطف معه ويواسيه بكلمات ويحثه على الصبر،  والبعض الآخر يطلب منه أن يستعيذ بالله، لأنَّ ما يفعله حرام، ولن يجد أحداً في غزة يريد شراء الأطفال، فالكثير عندهم ما يكفيهم ولا يستطيعون حتى توفير ثمن الخبز لهم.

  أمَّا أبو أيمن .ن، وهو رجل أربعيني، أخذ الدهر من صحته الكثير فبدا رجلاً بعمر السبعين، يقول لـ"النجاح الإخباري" : "تزوَّجت في عمر الـ(35) وذلك لأنَّ ظروفي المادية لم تكن تسمح بالمطلق بتحمل مسؤولية زوجة وعائلة، وحينما تيسر موضوع الزواج من أرملة شهيد، تعيش معي على الحلوة والمرَّة، لم أمانع، وفعلًا تحمَّلت وضعي في هذه السنوات السبع، دون تذمر أو شكوى، وقد رزقنا بولدين وبنت، وأنا الآن ليس لدي ما أقدّمه لهم".

وذكر أبو أيمن أنَّه فكَّر في يوم من الأيام أن يعرض ابنه أيمن للبيع، وأخذه وذهب به لأحد المساجد التي يدعون فيها للصبر وتحمل الوضع في غزَّة، وحينما خرج المصلون من المسجد نادى عليهم بأعلى صوته، أنَّ من يستطيع أن يربي ابنه ويعيشه حياة كريمة فهو له، ولكنَّه لم يجد منهم سوى كلمات الشجب والاستغفار.

وقال: "صراخ أبنائي يؤلمني وهم يتضورون جوعًا، فأخرج منذ الفجر لأبحث عن أيَّة فرصة عمل لأعود إليهم ولو برغيف الخبز، وأحيانًا أعود بشيء يسكتهم حتى الصباح، وأحياناً أخرى أعود وأنا أجر خلفي وجع وهم كبير، يزداد حينما أراهم نيامًا بعد أن يئسوا من عودتي حاملاً  الطعام". 

ويختم حديثه: "أين فرص العمل التي نسمع عنها؟ والمساعدات التي تأتي للبلد؟ يكفي أن تستولي عليها حكومة لا تعرف من الإسلام شيئاً، سوى الاسم فقط، وحسبي الله ونعم الوكيل، فإن سمعتم يوماً أنني أصبت بجلطة دماغية، فأنا وأسرتي وكلّ من مثلي، برقبة من يتحكمون في مصير حياتنا. "

يهدد:" سأحرقهم وأحرق نفسي..

قصة أخرى لزوجين تجتاح المشاكل حياتهم وتهدد استقرارهم، يسمع الجيران صراخاهم،  ويحاولون في كثير من الأحيان الإصلاح بينهما، كثيرٌ من الأوقات يصلحون فيما بينهم،  الزوج يفرغ عصبيته، وكبته المدفون في الصراخ على زوجته وأطفاله، وذلك لأنَّه لم يجد فرصة عمل تسدُّ الأفواه المفتوحة جوعًا، والطلبات التي ليس لها نهاية، حتى وصل الحال بينه وبين زوجته للطلاق، في لحظة غضب.

يقول خالد سمحان لـ "النجاح الإخباري": "زوجتي ذهبت لمنزل والديها وتركت لي (5) أبناء لا أدري ماذا أفعل معهم، من ناحية لا أستطيع التفاهم معهم ومعرفة ما يريدون، فأمهم  كانت تتحمل مسؤوليتهم،  وابنتي الكبرى تبلغ من العمر (9) أعوام، والصغير سنتين، وأنا لا أملك شيئاً لأقدمه لهم، ولا أحد يرضى أن أعمل عنده، نظراً لأني جريح وقدمي اليسرى مبتورة، فأنا أحتاج من غيري أن يهتم بي، لا أنا مَن اهتم بأحدهم."

سمحان فقد الأمل لدرجة بات يهدد على مسمع أطفاله، فيدب الرعب في قلوبهم خشية أن ينفذ  تهديده، يقول: "سأقتلهم وأقتل نفسي ونرتاح، يكفي، أكلنا الفقر والهم والغم، لا نريد العيش في غزة التعيسة، سأقتل أبنائي يوماً وأقتل نفسي بعدهم، وسامحني يا الله لأنه فأنت تدري أنني لا أتحمل جوعهم وبرد عظامهم".

علم النفس يدق ناقوس الخطر

الطبيب النفسي عبدالله قحمان أوضح لـ "النجاح الإخباري" أنَّ ما يحدث في غزة، صعب لا يمكناحتماله،أو الصبر عليه، فالحالات الكثيرة والتي يلمسها من خلال عمله في الطب النفسي ،سببها الرئيس الوضع الاقتصادي السيء والبطالة المتفشية بين الكبار والصغار.

وذكر أنَّ حالة الفقر الشديد الناجم عن تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والظروف القاسية التي تعاني منها الأسر في غزة جراء تضييق الخناق على القطاع،  وكم الأعباء الهائل الملقى على أرباب الأسر أوجد حالة من التوتر والنزاع الأسري بين الآباء وأبنائهم، وأوجد نماذج جديدة غريبة على مجتمعنا.

وأكَّد على أنَّ المجتمع الغزيّ يعيش حالة من التحلل الاجتماعي والانهيار التدريجي في النسيج الاجتماعي، جرَّاء تعرُّض أهالي القطاع لسنوات طويلة،  للعديد من الصدمات والضربات النفسية "بفعل كثير من الظروف السيئة.

وأشار إلى  أنَّ الكثير باتوا يعيشون حالة من الفزع والاضطراب النفسي الشديد، وشلل التفكير، ما أدى إلى فقدان التوازن الاجتماعي والخدماتي، وتفكير الكثير للميل للانتحار.

ولفت إلى أنَّ الغالبية العظمى من المترددين على عيادته،  والمراكز النفسية والتأهيلية، هُم من البالغين يعانون من مشاكل نفسية متعددة،  كالخوف، وعدم الشعور بالأمان، والعدوانية، والغضب، وسرعة الانفعال، والاضطرابات النفسية، والإحباطات العامة، وازدياد نوبات الهلع، وضعف في التركيز والانتباه، والشعور بالاغتراب، وعدم الانتماء، وفقدان الثقة بالآخرين، وشكاوى جسمية متعددة، والوسواس القهري وزيادة في الانتكاسات المرضية.