النجاح الإخباري -  أعادت الحلقة (44) من سلسلة كواكب لا تغيب لوزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية،  سرد حكاية التسعينية رشيدة داوود الفلايح، التي غيبها الموت  أمس، بعد أحزان امتدت منذ عام 1988.

ولازمت الفلايح صورة ابنها الشهيد حكمت مصطفى دراغمة، الذي قضى مطلع انتفاضة الحجارة، وظلت حتى آخر أيامها تكرر اللحظات الأخيرة التي جمعتها به، والألم الذي تعتصره، دون أن يفارقها الإطار الذهبي للشاب الوسيم.

ومما باحت به قبل رحيلها: "اقتحم جنود الاحتلال بيتنا مع الظهر، وحشرونا في غرفة واحدة وضربونا وفتحوا رأس ابني بهجت، ودارت مواجهات مع الشباب أمام الدار، وطلع حكمت العصر على الجبل مع العصر، وسمعنا صوت رصاص، ووقتها قلبي أوجعني، وخفت على حكمت، ولم يرجع للبيت، وصرنا نفتش عليه مثل المجانين، وما وجدناه إلا في صباح اليوم التالي، وهو يسبح في دمه بجنب بيتنا في زيتون (خلايل الفقها).

واظبت الأم المكلومة على احتضان صورة ابنها في زي رسمي  بالأبيض والأسود كالعريس كما قالت، وبقيت تستجمع المواقف التي لا تسقط من ذاكرتها في علاقتها مع ولدها، الذي أوقفت رصاصة إسرائيلية زحفه نحو إكمال دراسة الهندسة التي أحبها في جامعات رومانيا.

"الطبيب" أبو دولةّ!

ورسمت رواية ممزوجة بالحسرة جاء فيها: زرع حكمت ليمونة في حديقة الدار، وكان يحب الشجر والأرض،  ومّثل عليّ مرات كثيرة خلال مرضي، وكان يقول إنه الدكتور أبو دولة ( طبيب كان ذائع صيت في تلك الفترة) ويلبس نظارات، ويحمل سماعات، وإبرًا، وما كنت أعرفه، ويطلب مني شرب لبن وحليب والابتعاد عن الشاي والقهوة، وكنت أشفى، وما عرفت إنه الدكتور هو نفسه حكمت إلا بعد استشهاده.

وأعادت أخته حنان لشريط قديم فقالت: كان أخي بارعًا في التمثيل، وكانت أمي تصدق المواقف التي يؤلفها عليها، وفي بعض المرات يلبس  الدماية ( زي شعبي)، ويدعي أنه أبي، ويغّير صوته وينادي عليها (وينك يا أم عزات)، وكان أيضاً يقلد جارنا فالح، ويلبس مثله، ويدل أمي على طريق الأرض والزيتون في الجبل، وهي تصدق، دون اكتشاف أمره.

أطالت الأم الراحلة انتظار حكمت من بلاد الغربة، إلا أن الاحتلال اعتقله على الجسر، وبعد خمسة عشر يوماً أفرج عنه، وكان الجيران يأتون لتهنئتها، ولكن قبل أن يكملوا واجب السلام على الأسير المحرر والمهندس الذي كان  يفصله عام واحد عن اللقب، اقتحم جنود الاحتلال المنزل، وأجبروا العائلة على الجلوس في غرفة، قبل أن ينهالوا عليهم بالضرب وتحطيم أطرافهم، حين كانت تروج سياسة "تكسير العظام"، التي أطلقها وزير جيش الاحتلال اسحق رابين.

ليل وحناء

مما قصته الأم:  بعد ليلة من البحث عن حكمت، جاءت جارتنا أم عطوة وجه الصبح، وقالت وهي تصرخ  ( في واحد مقتول تحت الزيتونة)، وعندها شعرت أنه ابنها، وقبلها أعاد جنود الاحتلال عمال طوباس عن الحواجز، وقالوا لهم إن عندهم اليوم شهيد اسمه حكمت دراغمة، قتلوه أمس.

أصيب حكمت برصاصة في الرقبة، وظل ينزف حتى اكتشاف مكان إصابته بطلق قاتل، وانقلب حياة عائلته رأساً على عقب، وتبخرت أحلامه في الزواج من إحدى قريباته، والاستقرار في طوباس، تأسيس مكتب هندسي فيها، واختفى من المشهد الابن صاحب الترتيب الرابع في أسرته.

ووصفت الأم ابنها الذي ولد في آذار1959، ورحل يوم 22 آذار 1988: كان شعره مقرقط وأسود، ووجهه مربوع، وعيونه شُهل، وأحلى واحد بين إخوته، وكان يحب المقلوبة والعدس الذي لا يشبع منه، وفي يوم استشهاده طبخنا المفتول الذي طلبه.

زار الابن الغائب والدته في المنام مراراً، وطلب منها عبر جارتها شهلة، التوقف عن البكاء، والترحم على روحه وقراءة  القرآن بدل النواح. أما في يوم رحيله فانقلبت المدينة، وجاء المشيعون من مدن وقرى مجاورة، وغنى له رفاقه ( سبل عيونه ومد إيده يحنونه...)

أعادت عائلة الشهيد إطلاق اسمه على ابن أخيه جودت، لكن الأم أصرت على رفضها أن يبقى حكمت وحيداً في الاسم، ومع ذلك دون الأخ طفله على اسم عمه، واختاروا النداء أمام جدته باسم ثان هو فقيه.

وأنهت الأم قبل ساعة الرحيل: كثر الشهداء اليوم، وما عادت الناس تهتم  بهم مثل زمان، وبعدت القلوب عن بعض، وصار كل واحد بحاله.