نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة امتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

في المقال السابق ذكرنا كيف سمح استخدام الفكر النقدي في العصر الأول للإسلام، لتطوير المعرفة وتحريك النصوص الدينية بشكل ديناميكي متوافق مع الحاجة المجتمعية والسياسة، وبما يتناغم مع معطيات العصر وضرورة التطور. ثم فتحت الاحداث التاريخية الباب لتدخل الدولة الإسلامية وفرض مصالحها السياسية على المدارس الفقهية الدينية والإنسانية، ثم دعم ومناصرة توجهات دينية وفلسفية معينة على حساب التوجهات الأخرى، مما أدى إلى وصول لون محدد دون غيره إلى مراكز القوة والاستئثار، حتى اخذت تلك المدرسة بفرض منهجها التقليدي وبسط موروثاتها على عموم الناس. ولم يقف أصحابها عند حدود تجميد المعرفة الفلسفية، بل استفحل منهجهم التلقيني حتى وصل إلى تجميد المرويات والمنقولات الدينية، وتقديم روايات على أخرى، وإشهار أحداث دون غيرها، بما يتناسب مع افكارهم ومصالحهم السياسية والاجتماعية. فمثلا، اخذوا يقدمون مقولة ناقصات عقل على آية تكريم الله للإنسان، ويضعون باب في فقه الرق دون فقه الحرية، وتقصير الثوب على تطويل الكرامة، وقيام الليل على عمل النهار، وفقه الجزية على فقه المواطنة، وهكذا، حتى تم إخضاع العقل الجمعي للمسلمين لدائرة فهمهم الحصري، ومدارسهم الفكرية الخاصة.

وساهم في انتشار تلك المدرسة النقلية، حاجة سلطة الخلافة لبسط سيطرتها السياسية على الناس عبر تغليف ادوات ووسائل حكمها برداء ديني قادم من السماء.  وبناء على ذلك تم ربط شرعية الدولة بنصوص دينية، وتم تصوير الخليفة بانه ظل الله في الأرض، وبررت سلطة الخليفة المؤبدة بما سيق على لسان عثمان بن عفان بأن الخلافة هي قميص من عند الله يُلبسه من يشاء ولا يجوز خلعه،  ومنحوا للخليقة حق قتل المخالف عبر تصوير موقف أبو بكر الصديق في حربه على القبائل بأنها حرب عقائدية وليس حرب سياسية لحماية الدولة، كما أججت العنصرية الفكرية والفرقة الطائفية عبر تقديس بعض الشخصيات والمرويات التاريخية، وجعلت البيعة والطاعة والدعاء إلى الحاكم من المقدسات التي تسبق في أهميتها محاربة الفساد، واقتصر مفهوم أولي الامر على شخص الحاكم وليس قانون الدولة ودستورها، حتى تم تقديم الطاعة على العدالة. وهكذا تم تحجيم العقل النقدي في الوعي الجمعي للعرب والمسلمين عبر مراحل التاريخ الإسلامي حتى يومنا الحالي.

حين صدم العرب بالاستعمار يحتل أراضيهم ويسيطر على مقدراتهم، لم تقيض تلك الصدمة عقولهم النقدية، أو تهز حاجتهم المعرفية، في ضرورة إعادة النظر في موروثاتهم الفكرية، بل كان الركون الى الموروثات النقلية وجمود المعرفة هو المسيطر على عقولهم.  فبدل أن يسيروا وفق تطور المعرفة، أو تكوين منهج علمي وفكري جديد، في فهم النص وقراءته، أخذ أصحاب الفكر الديني التقليدي يطالبون الناس والدولة بالعودة إلى التاريخ والتزام خطاه، باعتباره أفضل الحلول لمشاكل العصر، مستشهدين ببعض الشواهد الاستثنائية، والكثير من الاساطير الخيالية عن أمجاد الماضي وبطولات عصره الذهبي. فساقوا في سبيل ذلك شعارات ونظريات دون أساس علمي او بحثي سليم، معتمدين فقط على عواطف الناس الدينية، ونرجسيتهم الثقافية، ثم أخذوا عبر الخطب والمواعظ، يوهمون الناس بأن الدين وحده يمكنه أن يسير بهم نحو التفوق الاممي، وأن الإسلام شامل لجميع وسائل التقدم العلمي والحضاري، ولو أنا فقط عدنا للعصر السابق لتمكنا من الفوز على الحاضر والمستقبل. فمثلا قالوا للناس أن نظام الزكاة يمكنه وحده، القضاء على الفقر، وأن خزينة بيت مال المسلمين كانت لا تغلق أبوابها من كثرة المال فيها، وأن الخليفة كان يحمل الدقيق على ظهره ليوصلها لفقراء الدولة، وأن العدل قد ساد بين رعايا الدولة على اختلاف معتنقاتهم الفكرية أو اصولهم العرقية. وهم بذلك يشترون عواطف الناس ويستدلون بأمثلة لم تحدث في التاريخ الإسلامي الممتد لأكثر من ألف عاما إلا نادرا أو إستثناءً، على أفضل تقدير. فهم لا يريدون أن يعلم الناس سوى جانب محدد وضيق من واقع التاريخ الإسلامي، مقابل تسويق فكرهم غير الواقعي وغير المنسجم مع العصر الحديث أو ما سيلحقه من عصور. وبالتالي تجدهم يتغافلون عن 98% من تاريخ المسلمين، ويخفون عن الناس ما وقع من ظلم للمخالف، ويتجاهلون الثورات والانقلابات والانقسامات التي امتدت عبر جميع عصور التاريخ الاسلامي.

إن تحقيق المراد من العدالة لا يتم اليوم عبر حمل الحاكم دقيقا على ظهره ولو قضى في ذلك عمره كله، كما أن فرضية جمع أموال الزكاة لا تستقيم مع حاجات الدولة الحديثة ونظمها الاقتصادية العصرية. فحتى لو تم جمع مال الزكاة، مع الافتراض بأن كل الاغنياء سيلتزمون بدفع ما عليهم، فستبقى الدولة بحاجة إلى مئات أضعاف أموال الزكاة لتغطية موازنة الدولة وحاجاتها المالية، ناهيك عن سد حاجة الفقراء. هناك نظم اقتصادية وعلوم إدارية على الدول الحديثة تبنيها حتى تستطيع مواكبة العصر في تغطية حاجاتها، ومن ثم تقديم التكافل أو الرعاية الاجتماعية لرعاياها. فنظم العدالة الاجتماعية والاقتصادية السليمة لا يمكن لها أن تتحقق وفق فرضيات تاريخية، بل عبر نظم حديثة من بينها فن استخدام ثروات الدولة الطبيعية، ومصادرها الصناعية المختلفة، وطرق الإنتاج الحديثة، والأهم من ذلك كله هو وجود نظم إدارية وقانونية حقيقية في المحاسبة، ومنع الفساد ومراعات الشفافية.

ربما يؤدي تَلَهُّف الناس للهروب من وصمة الفشل، وتتوقهم لتحقيق العدل والمساواة، وحاجتهم لإرضاء غرور الاعتزاز بالنفس، إلى تقليب أوراق التاريخ بحثا عن أي رواية أو أسطورة تحقق لهم نشوة الشعور بالانتصار او الفخر؛ فترخي أعصابهم وتستريح ضمائرهم عن مواجهة فشلهم في تقديم حلول جدية وموضوعية، لمعالجة الترهل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في بلادهم. وإذا لم يجدوا في أوراق التاريخ ما يشفي غرور نرجسيتهم، تجدهم يهربون الى روايات الخيال المستقبلي، التي تنبئهم بقرب قدوم المخلص المنتظر، وبروز علامات نزول سيفه من السماء، حتى إذا جمع الله الأعداء خرج إليهم بسيفه المسلول ليسحق به أعين أعداء الامة العوراء، ويفتح لهم باب الروم المقفول.

من هنا يقدم بعض الدعاة، مدفوعين بعواطف دينية أو دوافع سياسية استقطابية، حلول وطروحات تاريخية، او نظريات خيالية، تُبقي على الجمود ولا تدفعنا نحو التقدم العملي أو حتى التفكير العلمي النقدي.  وكلما حدث موقف هز العالم، أو اكتشاف أبهر الناس، جاء رواد المنهج النقلي ليربطوا حدث اليوم بحديث الأسلاف؛ فإعلان حقوق الإنسان، وتحرير الرق الذي يعد أفضل إنجاز بشري على مر التاريخ، وحقوق المرأة وغيرها مما قدمه لنا الوعي الجمعي للإنسانية، ألمح به السلف الصالح أو أشار له فقهاء المسلمين في كتبهم الاثرية! هكذا يقوم دعاة العقل النقلي بتبسيط الأمر، دون أن يعطونا سببا لسكوت المسلمين لأكثر من ألف سنة عن ذلك السبق، وتركه للغير حتى يعلنوه. لا شك بان الاستسلام لأسطورة أن الإسلام جاء بكل ما وصل له العلم الحديث، وما توصل له الاخرون من نظم الدولة المتقدمة والديمقراطية وكفالة حقوق الإنسان، تغذي نرجسية الوعي الجمعي العربي بأننا لا نحتاج لتقديم أي إضافة للحضارة الانسانية، بدليل أن ما وصلت إليه أفضل الحضارات من تقدم، تم سرقته من موروثاتنا التاريخية، أو نصوصنا الدينية. تلك الاسطورة التي يستمر دعاة المنهج النقلي في ترديدها، تجعلهم يخلطون بين ما هو علمي مبني على تراكم المعرفة الإنسانية، وبين ما هو ديني مبني على الوحي والفهم الصحيح لمراد الله. فمن المهم أن نفرق بين الوحي وما هو مبني على التراكم الإنساني المعرفي، لأنه من جهة يجعلنا نتعامل بواقعية ومنطقية مع النصوص الدينية، ومن جهة اخرى يدفعنا للاستمرار بالبحث، حتى نقدم إضافة جديدة لما تم إضافته من غيرنا.

إن استخدام العقل النقدي في التعامل مع النصوص الدينية أو التاريخية، تتيح لنا تحري دقة ما وصلنا من معرفة او معلومات، وتجعلنا أكثر انسجاما مع أنفسنا وتاريخنا، كما انها تمكنا من فهم الواقع وتقديم حلول موضوعية لمشكلاته. تلك الالية تجعلنا نتفهم ونعترف مثلا بان الإسلام لم يكن أول من قدم للبشرية نظام التكافل الاجتماعي، بل كان الروم أول من عرف عنهم ذلك النظام، ثم أخذت أشكاله بالتطور إلى أن وصل له المسلمون، فساهموا بالإضافة عليه، ثم وصل إلى الغرب فأضافوا عليه، ويمكن لنا أن نأخذ إضافتهم ثم نطورها، وهكذا تكون المعرفة تراكمية ومستمرة.  يقاس على ذلك نظم الحكم، وطرق النظافة، ووسائل الحجر الصحي، والية التعامل مع الاعداء، وبناء المدارس والمستشفيات، وغيرها من شؤون الدنيا ومعارف البشرية. فكل ذلك قد حثت عليه حضارات سابقة وصلت معظمها إلى العرب، ثم جاء نور الإسلام، فعمل الرسول على أخذ أفضل ما وصله من علوم السابقين ومعارف اللاحقين، واستخدم أحسن أدوات عصره في التعامل مع متطلبات المجتمع والدولة من مثل شؤون الصحة والنظافة وحسن المظهر، وتطبيق النظم الإداري والبيئية وهكذا. وبالتالي كان رسول الله يستخدم ويحث على أفضل ما وصله من معرفة إنسانية، ليس من باب كونه دينا موحى به، بل من باب أنها علوم دنيوية ومعرفة تراكمية.

إذا فسرنا السيرة والأحاديث بتلك الفلسفة، يمكن لنا بعدها أن نستوعب أي أثر أو قول عن الرسول جاء متفقا مع العلم الحديث وكان قد حث عليه الرسول أو طوره المسلمون من بعده باعتباره امتدادا أو تراكما للمعرفة الانسانية، وفي المقابل يتم تفسير كل رواية لا تتفق مع العلم الحديث بكونها أقوال ومعارف بشرية كانت أفضل ما توصل اليه الانسان في عصر معين، ثم تمكن الانسان من الوصول لما هو أفضل او أصح منها. بتلك الألية نعزل الدين عن منافسة العلم الذي قد يخطئ، ونبتعد عن دس الدين في كل ما يمكن علميا إثبات عكسه. وعليه تكون الأقوال المأثورة عن دور الإبل في العلاج، او منع السم بأكل بضعة تميرات، أو الشفاء كل داء بالحبة السوداء، أو ما ورد عن جناح الذباب، أو النظم الاقتصادية والإدارية والعسكرية والسياسية، تكون كلها مما يندرج تحت باب المعرفة الإنسانية القابلة للتعديل والتطوير والتحسين. ولعل الحديث المشهور عن النبي حين قال "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ" بعد أن خرج التمر رديئا بسبب إرشاده لأصحابه في أمور النخل، لأوضح دليلا على ما سبق. فلو أنتج النخل تمرا صالحا، لحول أصحاب النهج النقلي إرشاد النبي من مجرد المعرفة الإنسانية القابلة للتعديل والتطوير إلى سنة روحانية يتقربون بها إلى الله. لكن أراد النبي أن يضع لنا قاعدة عامة في أن أمور الدنيا، من زراعة وطب وسياسة واقتصاد وغيرها، تكون كلها مرتبطة بالخبرة التراكمية الدنيوية التي نحن اليوم أعلم بها، ثم سيكون الاحفاد غدا اعلم بها منا، وهكذا لا تنتهي دائرة المعرفة عند زمان او أمة او مكان. هذا هو المنهج العلمي الحديث والمبني على نظرية المعرفة، التي قال عنها الفيلسوف بوبر بانها تنمو عبر قيامنا بالفحص النقدي المستمر الى ما لا نهاية، وبالتالي لا يوجد حد نهائيا للمعرفة

المطلوب إذن هو التوقف عن إسقاط التاريخ والدين في معركة الإنسان مع المعرفة العلمية أو الإنسانية، أو نظم الدولة الإدارية والسياسية، وعلينا أن نفهم أن ما وردنا من أقوال وما توصل له أسلافنا من معارف لم يكن مبني على نسق تاريخي معين، أو التزام ديني محدد، بل بني على ما وصلهم من علوم سابقة، ثم أضافوا عليها. ونحن نملك أن نقدم الجديد، إذا رفعنا عن عقولنا غطاء الجمود النقلي، وقمنا بدراسة النص بعقلية نقدية موضوعية، وتعلمنا العلوم الحديثة وفق منهج نقدي معمق، ثم نعمل على الإضافة التراكمية عليها.  وليتحقق ذلك فعلينا أن نطور فسلفتنا الفكرية، ونظام التعليم والبحث المعرفي، وهو ما سنبحثه في المقال القادم.