وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - «البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم ولكنهم لا يفعلون ذلك طوعا وفي إطار خياراتهم، بل ضمن شروط قائمة موضوعيا ومسبقا»، هذه مقولة مهمة لأحد مفكري السياسة، والمقصود هنا أن عدة عوامل تتحكم في المساحة التي يتحرك فيها السياسيون ارتباطا بالشروط والظروف والمناخات القائمة ودائمة التغيير.
إذاً، الشروط هي التي تحكم الحركة السياسية، والقرار السياسي هو نتاج ما توفره الظروف من عوامل ومساحات ويبقى الخيار في القدرة على الاستثمار بين الحد الأدنى والحد الأقصى مما توفره الظروف. وهذا يصنع الفارق بين قيادة وقيادة بين قرار وقرار بين سياسة وسياسة، وتحكم على مستوى إدارة السياسة.
واجه الفلسطينيون ظروفا غاية في الصعوبة وكانوا على وشك التبدد، ولعقدين بعد النكبة تلاشت قضيتهم وتفتت الشعب المتماسك على أرضه وكف عن التطور كوحدة واحدة وهنا ما صنعته منظمة التحرير في الستينيات من القرن الماضي. كانت معجزة بمقاييس الظروف حينها من إعادة إنتاج قيادة واحدة من العدم المشرذم وهوية واحدة ونشيد واحد ما مهد لبعث ثورة ملأت الكون ضجيجا.
ارتكبت إسرائيل خطأها الأكبر باحتلال الضفة والقطاع والقدس في حرب حزيران ما أعاد تواصل الشعب الفلسطيني في الداخل، وما مهد للانتفاضة الأولى والتي وضعت القضية على الخارطة الدولية كأولوية. واللافت في كل المراحل أن ياسر عرفات يتحرك دوما نحو الحد الأقصى مما توفره الظروف والتي خذلته مطلع التسعينيات عربيا ودوليا من حرب العراق وتفكك الاتحاد السوفيتي لتضيق مساحة الحركة إلى حدها الأدنى لتُنتج اتفاقا بمستوى أوسلو.
لكن المجتمع الفلسطيني يقف الآن بعد زلزال السياسة وارتداداته الهائلة أمام حالة لا تشبه تلك الحالة التي أخذت بالصعود منذ عقود، بل يؤشر على نوع من الذبول والتراجع إذ عادت تجمعات الشعب الفلسطيني لما يشبه التشتت والتشظي من جديد في أخطر وضع يمكن أن يهدد واقعه ومستقبله.
خلال الشهور الماضية، انشغلنا بمتابعة ومراقبة والكتابة عن المأزق الذي دخلته إسرائيل منذ انتخابات الأول من تشرين الثاني، والتي حملت أقصى اليمين المتطرف والنقيض للدولة العميقة وللهوية التي صنعتها النخبة العلمانية التي أقامت الدولة. وكان هذا على حساب التركيز على تآكل المجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية التي هي بالقطع نتاج مجتمع سوي يقف ويصنع حركته السياسية وقرارها بما توفره الظروف السوية وقدرة تلك الحركة على الاستثمار.
بعد أن تشتت المجتمع إثر النكبة خضع لعدة نظم سياسية مختلفة لعبت دورا في التأثير على هويته الأصلية، وقد كان قد كف عن التواصل حيث خضعت الضفة للإدارة الأردنية وغزة للإدارة المصرية أما من تبقى في إسرائيل فقد تعرض لعملية أسرلة قسرية هدفت لنزعه عن محيطه العربي وجذوره الفلسطينية وهويته الأصلية، هذا أخطر ما حدث وجاء استكمال الاحتلال ليعيد تواصل الفلسطينيين ثم جاءت السلطة لتصنع منهاجا موحدا وتعيد التواصل مع فلسطينيي الداخل وحركتهم الوطنية.
الآن، هناك أزمة تعصف بالشعب الفلسطيني يجسدها غياب منظمة التحرير والصراع بين حركتي فتح وحماس والتباعد النفسي بين مجتمعي غزة والضفة، فكل منطقة باتت مجتمعا مستقلا بثقافة خاصة هي وليدة ظروفها والقرار فيها هو ابن المناخ المسيطر، وتشهد التجمعات أزمة كبيرة كل منها يتفرد بمأساته الخاصة التي لم تعد أولوية لتجمع غيره وتلك كارثة.
قطاع غزة البائس والمحاصر يبدو كمنطقة خارج الحياة، ففيها تنعدم شروط الحد الأدنى ويسيطر عليها الفقر وانعدام الكهرباء وفرص العمل والبطالة مع ارتفاع نسبة العنوسة وضياع مستقبل الشباب، وكثير من المآسي التي يعيشها الأفراد والعائلات دائمة الشكوى وحيث انعدام الأمل سوى من مصالحة لن تأتي، لكن الانحدار لا ينتظر والحروب المدمرة التي أصبحت قدرا لها لا تتوقف.
أما الضفة الغربية فمأساتها لا تقل كثيرا حيث انعدام الأفق السياسي وتشوه المعادلة مع الإسرائيلي لجهة القضايا الحياتية، والاقتحامات للمدن والمخيمات وعمليات التصفية وتسارع الاستيطان والضم وتراجع السلطة ونشوء ما يشبه نزعة التحلل في شمال الضفة والوضع الاقتصادي الضاغط.
أما فلسطينيو الداخل فقد بدأت تظهر بوادر التفكك بانتشار الجريمة المنظمة جدا وارتفاع حالات القتل الجنائي وثقافة الثأر، وتراجع الحركة الوطنية هناك والتصدع الحاصل بينها وتراجع دور القوى والأحزاب في معالجة أزمات المجتمع الذي يتعرض لعملية استهداف ممنهجة.
في لبنان، يتم ضرب تجمع آخر خارج فلسطين بعد أن تهجر الشعب الفلسطيني من سورية بفعل الحرب، وانتهى مخيم اليرموك كعاصمة الشتات ودفيئة حركته الوطنية، وتنتقل الأزمة إلى مخيم عين الحلوة وريث اليرموك في صراع متجدد بالنار لن ينتهي إلا بإضعاف وتبدد الفلسطيني وحركته الوطنية التي سيطرت لعقود وشكلت ضامنا للبقاء والصمود.
وأمام هذا المشهد وتلك الظروف وعن هذا التآكل الخطير، هل يمكن الحديث عن استمرار أو إدارة سياسة سوية وناجحة؟ هذه مسؤولية القيادة وقدرتها على إدارة السياسة ونجاحها في الاختبار، فهي أمام فعل إسرائيلي على مدار الساعة يهدف لتحطيم مجتمعها وحينها يصبح سؤال النهوض بمجتمعها وقضيتها سؤال الضرورة .... وهذه مسألة تحتاج إلى الكثير من الكلام.