نابلس - تحسين يقين - النجاح الإخباري - ينقصنا الكثير من المعلومات عن تاريخنا الحديث والمعاصر، بل والقديم، فقد اكتفى جزء من التربويين في بلادنا بالتركيز على التاريخ العربي الإسلامي، وصولاً للدولة العثمانية، ونتف من التاريخ الحديث المتركز على استقلال الدول العربية. وهكذا كان جيلنا منقطعاً عن:
- الحضارات القديمة التي أسست للحضارات في مصر واليونان والرومان.
- التاريخ العربي الحديث، خاصة آخر قرنين؛ حيث لم نتعلم فعلاً شيئاً ذا بال عن عصر النهضة والتنوير في بلاد الشام ومصر. وطبعاً، مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، خاصة بعد عام 1967، تم حصر فلسطين ضمن خارطة فلسطين الانتدابية، فحصل هناك فصل غريب لفلسطين عن سورية الكبرى، أي بلاد الشام. ولنا أن نتذكر أوراق عبد القادر الحسيني، الذي كان يؤرخ لمراسلات الجهاد المقدس، بذكر اسم سورية الجنوبية، قاصداً فلسطين.
تُرى.. من له مصلحة بعدم تدريس تاريخنا العام بما هو عليه فعلاً؟
الآن، وخلال ربع قرن، تهيأت فرصة لتعليم التاريخ الفلسطيني ضمن تاريخ المنطقة العام، ضمن تاريخ الوطن العربي وجغرافيته، بل وتهيأت فرصة لرد الأمور لنصابها، من حيث إعادة كتابة التاريخ هنا، بذكر تلك الفسيفساء البديعة، بالارتكاز على جميع المكونات، لا الانتقاء من هنا وهناك، والتأثر بمنطلقات غير موضوعية، تركت للآخرين تزييف التاريخ.
من المهم دوماً بنظري، التركيز على تاريخ فلسطين الحديث ضمن تاريخ النهضة والتنوير منذ أواسط القرن التاسع عشر. وهو يذكر بتاريخ كل أمة، من الرومان والنهضة الأوروبية الحديثة، حين أحيت تلك الأمم التاريخ الماضي للبناء عليه، لأن الزمن كله منظومة فكرية أيضاً، وليس فقط منظومة زمنية.
خلال هذا، كان لا بد من التعرف على تاريخنا الفلسطيني، ضمن تاريخ المنطقة العام، في القرون الثلاثة الأخيرة قبل القرن العشرين، لأنها تؤسس لما كان ويكون، وهنا نستذكر معاً كتاب د. بشارة دوماني "إعادة اكتشاف فلسطين: التجار والفلاحون في منطقة جبل نابلس، 1700-1900"، الذي ارتكز عليه الدكتور فيصل دراج في كتابه "آل عبد الهادي في تاريخ فلسطين: أقدار وطن ومآل نخبة وطنية". وعليه، وخلال تناولي للكتاب افتتحت مقال بهذه الفقرة المقتبسة أصلا من كتاب د. دوماني: "اعتُبر سقوط بلدة عرابة عام 1859، وهي مركز آل عبد الهادي، إحدى الوقائع الكبرى في تاريخ فلسطين وما يجاورها، الى جانب وقائع أخرى بالغة الأهمية، مثل حملة المصري إبراهيم باشا على فلسطين وبلاد الشام، والسؤال الآن: لماذا عرابة ولماذا عائلة عبد الهادي؟"، حيث خلصت الى ما خلص إليه دوماني ودراج، يرتكز على ما مهّد به الإنجليز قبل احتلال فلسطين بعقود، أن تصبح بلادنا بدون قيادة فاعلة فعلاً، أو في أحسن الظروف اقتتال عائلات عليها، حيث يسهل ضبطهم وإخضاعهم. وبالطبع فإن هذا ما يفسّر لمَ اعتُبر سقوط عرابة أمراً مهماً في تاريخنا.
ووقتها تمنيتُ أن تدرج أقسام التاريخ في جامعاتنا الكتاب كمساق لما له من أهمية استراتيجية، خصوصاً أنه بحث علمي لمفكر أيضاً، استخدم فيه الكاتب قدراته وخبراته، في تناول هذا النموذج التاريخي، بدءاً بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للعائلة والبلدة، رابطاً بين الشيح حسين عبد الهادي والقائد الحديث عوني عبد الهادي الحفيد مؤسس حزب الاستقلال، مروراً باستعراض حال فلسطين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والأجيال الجديدة، بتركيز على وجهين نسائيين، هما طرب عبد الهادي وعصام عبد الهادي، وصولاً لشهادة اثنين هما سمير نعيم عبد الهادي وسعد قاسم عبد الهادي.
وما زلتُ حتى اللحظة وغداً أتمنى أن نوفق في اختيار المنهج الأفضل لتعليم التاريخ لطلبتنا صغاراً وكباراً، تعليم يكون مجالاً وسبباً لإنتاج معرفي عميق بدءاً بالتاريخ العام والقومي بل وتاريخ الأفراد والمؤسسات.
فحين نفكر مثلاً في جامعة بيرزيت، وهي الجامعة الأم في فلسطين بعد عام 1967، فإنه ينبغي التعرف على تلك الكليات، ما بعد الدراسة الثانوية، في القدس بشكل خاص، التي خرجت الملتحقين بدار المعلمين، أو القانون، والتي تم وأدها عام 1948. لذلك حين انتقلت مدرسة بيرزيت العليا إلى كلية، ممهدةً الانتقال النوعي إلى التدريس الجامعي عام 1953، بافتتاح الصف الدراسي الأول، وتبعه الثاني عام 1961. وصولاً إلى إلغاء الصفوف المدرسية في عام 1966، واقتصار التعليم فيها كلية على الصفين الجامعيين الأول والثاني، فقد كانت تلك حركة أكاديمية متأخرة سببها الاحتلال، لذلك لم يكن من الغريب أن يستكمل الدارسون فيها تعليمهم/ن العالي في الجامعة الأميركية في بيروت، ولا أدري لربما أيضا في الجامعة الأميركية في القاهرة.
هنا، يمكن للمؤرخين والمفكرين الفلسطينيين، وللدكتور حنا ناصر بشكل خاص، توضيح ما كان من اتجاهات حديثة في التعليم، شكلاً ومضموناً، خصوصاً في التعامل مع التاريخ والمكونات المتنوعة، ومنح مساحة حرة للبحث والتفكير. وهكذا ما إن نمت الجامعة في السبعينيات، حتى وجدت نفسها تسير على سكة نهضوية، حداثوية حرة معاصرة مستفيدة من منجزات العلوم الاجتماعية.
منذ عهد الاستقلال حتى الآن، ولأسباب موضوعية لها علاقة ببنية النظم السياسية، كان لمناخ السلطة الشمولية أثر على البحث، بسبب الاتجاهات الحكومية التقليدية، في حين خلصت فلسطين تحت الاحتلال من هذه القيود، في ظل عدم وجود نظام حكم سياسي، فظهرت في فلسطين، وبيروت، (مقر الثورة الفلسطينية) اتجاهات بالكتابة والبحث أكثر حرية، كونها متحررة من سطوة السلطات التقليدية.
ولعل هناك مجال لتعميق استقلالية البحث العلمي والتعليم العالي، (له كتاب بعنوان الحرية الأكاديمية) وهكذا فإننا نستذكر ما جاء في رسالة دوماني الرئيس الجديد لجامعة بيرزيت:
"أن لدى جامعتنا بيرزيت فرصة عظيمة للمساهمة في أن نصبح مصدراً منتجاً للمعرفة بدل ان نبقى مستهلكين لها فقط، وذلك بما يتسق مع دورنا الريادي المتعلق بالإنتاج الفكري والممارسة التحررية، وهذا يتطلب منا التشبيك والتعاون داخليّاً وخارجيّاً، والاستلهام من تجارب شعوب أخرى في العالم."
ولعلنا أيضاً نقتبس من رسالته ما ينسجم مع هذا التوجه:
"وكلي تفاؤل وثقة أنه من خلال الحوار البناء، والمشاركة في صنع القرار، والحفاظ على مصداقية المؤسسة، واحترام التعددية والتنوع، وحماية كرامة وحقوق كافة أفراد أسرة الجامعة، فإن بإمكاننا أن نجعل من جامعتنا نموذجاً لما نحب أن تكون عليه فلسطين التي نحلم بها. إن مهمتنا الأساسية في هذه الجامعة، كما أراها، هي الاستثمار البناء بالأجيال المتعاقبة من شباب فلسطين. وقد أثبتت تجارب التحرر في مختلف أرجاء العالم، أن بناء جيل أكثر وعياً بواقعه وبحقوقه الوطنية والإنسانية، وأكثر إيماناً بالعدالة الاجتماعية، وأكثر قدرة على التفكير الخلاق، وأكثر استعداداً لتقبل التنوع؛ هو الطريق الأقصر لحرية الشعوب وازدهارها...رغبتي المساهمة معكم في مواجهة تحديات هذه المرحلة، التي تشهد تحولات أساسية في نموذج وطبيعة الصراع الجاري مع العدو الصهيوني، هذا التغير الذي يجب أن يعكس نفسه على طبيعة ونوعية مساهمة الجامعة في المهمات التربوية والمجتمعية والوطنية؛ إذ لم تعد المهمة المباشرة والوحيدة هي بناء أجهزة الدولة، بل أصبحت هناك حاجة أيضاً إلى تعزيز القدرة على مواجهة ممارسات الاستعمار الاستيطاني، الأمر الذي يملي على الجامعة مواءمة مساهماتها ومهماتها مع مثل هذا التغير".
تأمُّل سيرة رئيس الجامعة بيرزيت، الجامعة الأم، فيما يخصّ الدرس التاريخي يبعث على الاعتزاز، فقد  شغل "كرسي محمود درويش للدراسات الفلسطينية" في جامعة براون، وهو أول كرسي من نوعه يتم إنشاؤه في جامعة أميركية. وهو المدير المؤسس لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة براون والذي أداره في الفترة ما بين 2012-2018. وأطلق دوماني مبادرة الاتجاهات الجديدة في الدراسات الفلسطينية البحثية في عام 2013. وتتركز اهتماماته البحثية على التاريخ الاجتماعي للشعوب التي همشتها الدراسات والأبحاث المختلفة، ولعل كتابه "إعادة اكتشاف فلسطين" الذي ذكرناه هو تجلٍ لهذه الرؤية. ولعل تلك الخبرات قد أهلته بحق ليكون محرراً في سلسلة الكتب المخصصة للدراسات الفلسطينية التي صدرت بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا برس، ومحرراً مشاركاً في مجلة Jerusalem Quarterly، إلى جانب مشاركته في هيئة تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية، وعضو في لجنة البحث العلمي لمركز الدراسات الفلسطينية. وأخيراً فيما يتعلق بتاريخه العلمي، فقد انضم دوماني إلى جامعة براون بعد 14 عاما في جامعة كاليفورنيا- بيركلي، و8 أعوام في جامعة بنسلفانيا، وحصل على زمالات من Woodrow Wilson International Center for Scholars، وWissenschaftskolleg zu Berlin، ومعهد رادكليف للدراسات المتقدمة في جامعة هارفارد، ومعهد الدراسات المتقدمة في برينستون".
وقد قصدت هنا، كما تلاحظون، وتلاحظن، الإشارة لأهمية فهم التاريخ بعيداً عن الأدلجة والتقديس والانحياز، كذلك، فهم "التواريخ" في سياقاتها، حتى تاريخ المؤسسات كجامعة بيرزيت، وشخصيات كالدكتور دوماني، الذي استقبله الرئيس محمود عباس، بصحبة التنويري البارز دكتور حنا ناصر، وارث الرسالة، وسادن الفكرة.
هناك أمل كبير أن ينجح الأكاديميون والمبدعون/ات فيما أخفق فيه الساسة، فنشهد تعاوناً أكاديمياً في مختلف المجالات داخل الجامعة الواحدة، وبينها وبين الجامعات داخل الوطن وخارجه، خصوصاً في إطلاق مشروع إستراتيجي حول "تعليم التاريخ"، في المدارس والجامعات؛ فالاستثمار فيه أمر وطني وإستراتيجي، والذي سيكون له مقال خاص.