عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - لم يغب السؤال عن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي منذ استقلال الدول العربية وتخلصها من الاستعمار، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. وظل سؤال الديمقراطية العربية أحد أكثر أسئلة السياسة تعقيداً في المنطقة. وبقدر ارتباط الحالة العربية بالحالة الاستعمارية بقدر ما ظلت المنطقة العربية متفردة في "العجز الديمقراطي"، ففيما نجحت دول كانت أقل حظاً ومجتمعاتها أبعد عن الثقافة والوعي الديمقراطيين في تجاوز عقبة التحول الديمقراطي وباتت في مصاف الدول الديمقراطية، فإن جميع الدول العربية عجزت عن اللحق بالركب الديمقراطي. ثمة أحجية هنا ليس من السهل حلها، فالأمر مرتبط أيضاً بعجز الدولة العربية عن أن تكون دولة حقيقة تمثل مواطنيها وتدافع عن مصالحهم.
في الحقيقة ثمة انطباع أن الدول العربية لم تستقل، وأن أشكالاً أخرى من الاستعمار ما زالت تربط النخب الحاكمة مع مستعمرها السابق. بل أبعد من ذلك وبعيداً عن البلاغة، فإن نخب ما بعد الاستقلال في الحقيقة كانت تعمل على تنفيذ مصالح الاستعمار بشكل مختلف، وأن هذه النخب ليست إلا نتاج مرحلة الاستعمار نفسه. وهذا ينطبق في واقع الحال على كل النخب التي صعدت للحكم بعد تفكك الاستعمار في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وهذا بدوره خلق فجوة كبيرة جوهرها غياب الثقة بين النخب الجديدة وبين جموع المواطنين؛ لأن هؤلاء لا يثقون بأنهم فعلاً تحرروا من الاستعمار.
الرجل على الحصان نجح في تحويل شعور الناس بالانتصار على الاستعمار إلى شعور بالخيبة والإحباط. لم تنجح الدول القطرية العربية أن تكون دولة مواطنيها، وظل المواطن غريباً عنها ولم يجد حاجة للدفاع عنها وقت الأزمة؛ لأنها ببساطة ليست دولته بل دولة من يحكمها. وسرعان ما تصادمت الدولة وأجهزتها مع النخب المختلفة من أجل أن تمتد جذور الدولة عميقاً في المجتمع وتهمين على علاقاته الداخلية وشبكاته الاقتصادية، وتحوّل كل مؤسسات الدولة إلى ميكروفونات لبث خطابها الذي يحمل رؤيتها للمزيد من الهيمنة والتحكم. لم يعد الرجل على الحصان هو حامل السيف الذي يريد أن يقطع رأس الاستعمار، ولم تعد ثمة حكايات عن بطولاته، بل باتت تتنامى إشارات عن سعيه لتحويل الدولة لملكيات خاصة. حتى العلاقة مع النوستالجيا المعرفية شهدت نكسة مبكرة. فالمثقف الذي وقف داعياً للثورة وناضل بقلمه وقصيدته وقصته وريشته من أجل حريه شعبه، والذي رأى في الرجل على الحصان المخلص من ربق الاستعمار وآمن أنه يمكن أن يعبر بالشعب إلى بر الخلاص، عاش خيبة كبرى بعد سنوات من التحرر؛ حين وجد نفسه مبطوشاً به من قبله، إذ إن حقه في التعبير عن رأيه تعرض لانتهاك خطر، وواجه بعضهم الموت والسجن والتعذيب بسبب موقف أو رأي. وعليه وجد المثقف العربي الخلاص في الهرب إلى عواصم الاستعمار الذي ناضل من أجل التخلص منه.
هل للأمر علاقة بالنخب الحاكمة؟ ربما، بيد أن التحليل السابق لا يريد أن يشير إلى أن سبب الاستعصاء الديمقراطي العربي هو النخب أيضاً. العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي من تنتج طبيعة النظام السياسي. وفيما نجح الحاكم العربي في تحويل الدولة إلى حظيرة منزله الخاصة، فإن المواطنين فشلوا في النضال من أجل تمكين أنفسهم ديمقراطياً. وحتى اندلاع ما بات يعرف بثورات الربيع العربي، فإن الحالة العربية لم تشهد سعياً حقيقياً نحو استعادة حقوق المواطنين بحياة كريمة وبمشاركة سياسية فاعلة وليست شكلية. ربما ظهرت معارضة هنا وهناك وظهر خصوم حقيقيون لبعض الأنظمة، لكن لم يكن هناك سعي ولا ثورة من أجل استعادة الحقوق الديمقراطية الغائبة. انعكس هذا بشكل جلي فيما حدث بعد محاولة التحول الديمقراطي العربي. فشلت التجربة العربية. الآن يمكن القول: إنها لم تنجح في أي دولة. بل على العكس من ذلك فإن بعض الدول مسها ضرر كبير، وصل إلى حروب أهلية بسبب محاولات التحول الديمقراطي الفاشلة. الأمر لم يكن عملية تحول ديمقراطي، بل صراع آخر على السلطة تم خلاله توظيف توق المواطنين لصندوق الانتخابات من أجل تذكية الصراعات غير الديمقراطية بين مكونات النخبة السياسية الحاكمة وغير الحاكمة. ما حدث أن غياب الوعي الديمقراطي وعدم إيمان النخب الحقيقي بالدور الذي يمكن أن تقوم به الديمقراطية في استقرار النظام السياسي، كل ذلك قاد إلى وضع أكثر سوءاً.
هل ثمة أزمة في الثقافة العربية. المستشرقون حاولوا أن يقولوا نعم، وحاولوا أن يثبتوا العجز في طبيعة الثقافة العربية بمكونها الإسلامي وكأن ثمة ما هو ديمقراطي في الدين المسيحي واليهودي والبوذي فيما الدين الإسلامي غير ذلك. هذا التفسير الثقافي بعمقه الاستشراقي لا يقصد شيئاً إلا نفي أي محاولة لخلق حالة ديمقراطية عربية. وبشكل عام، فإن عملية الاستعصاء الديمقراطي مردها غياب العقد الاجتماعي الحقيقي بين الدولة والمواطن، إنه العقد الذي حرص الاستعمار قبل أن يرحل على تشويه أي فرصة لتطويره من أجل أن تتحول النخبة الحاكمة الجديدة إلى مستعمر جديد.
لم ينجح أي مشروع ديمقراطي عربي منذ قرابة قرن من الزمن، وظلت المنظومة العربية خارج فلك التحول الديمقراطي، ولن يتم الإشارة لاحقاً إلى موجة التحول الرابعة وحدوثها في المنطقة العربية وفق تصنيفات منظري التحول، بل سيشار مرة أخرى إلى دور النخب في قتل المولود الذي لم ير النور. كما ستظل دائماً الإشارة بوضوح إلى غياب الوعي الديمقراطي، وعدم إدراك الحاجة للديمقراطية بوصفها أفضل الحلول لتطوير مؤسسات الدولة. وهكذا مع انهيار العملية الديمقراطية في تونس لتلحق بركب كل تجارب الديمقراطية الفاشلة بعد مرور سحابة الربيع العربي، فإن سؤال العجز الديمقراطي العربي سيظل بلا إجابة، وحالة الفشل بلا استثناء.