نابلس - رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - كان إجراء الانتخابات التشريعية العامة، مطلبا دائما للسلطة الفلسطينية ولحركة فتح، من أجل إنهاء الانقسام، فيما جاءت استجابة حركة حماس لذلك المطلب مشروطة وبعد وقت، وحتى على مضض، وبضمانة رباعي دولي، على أن تُجرى متبوعة بالانتخابات الرئاسية، وبانتخابات المجلس الوطني، وما زالت التقديرات تشير إلى أن هناك فريقا قياديا حمساويا ضد إجراء الانتخابات، كذلك منذ البداية كان الجميع يجمع على أنه لا انتخابات دون القدس، عاصمة دولة فلسطين، فيما كان واضحا، أن ذلك الأمر لن يمر بسهولة، خاصة بعد أن حصل الإسرائيليون على اعتراف أميركي بالقدس عاصمة لهم، وفي ظل تراجع العلاقة بين الطرفين إلى أدنى مستوى لها منذ توقيع أوسلو، فإن موافقة إسرائيل الصريحة، في ظل تعثر التشكيل الحكومي والمأزق الداخلي، كانت تبدو منذ البداية أمرا مستحيلا.
رغبة القيادة الفلسطينية في إجراء الانتخابات لا لبس فيها، لكنها تتمتع بالحذر والمسؤولية، من أن يعني المضي قدما في الانتخابات قبول الأمر الواقع الاحتلالي بإخراج القدس من معادلة الاحتلال، أو حتى تطبيق إجراء انتخابي مختلف، يشمل السكان ولا يشمل الجغرافيا، وهذا ما تريده إسرائيل بالضبط، فالهدف ليس ضمان مشاركة المقدسيين في الانتخاب ولا الترشح، والمشاركة لا تعني زوال الاحتلال، ولا تعني فرض عروبة القدس، فمواطنو إسرائيل العرب، يشاركون في انتخابات الكنيست، انتخابا وترشيحا، ويصلون كنواب مستقلين للبرلمان الإسرائيلي، دون أن يسمح لهم بالمشاركة في الحكومة، المهم أن الحرب مع الاحتلال يجب أن تفرض على الفاعلين في حقل السياسة الفلسطينية، التحلي بالمسؤولية الوطنية، وممارسة العمل السياسي في فلسطين ليست ترفا ولا بحثا عن منصب أو امتياز، بل هي فعل وطني يتطلب التضحية بما هو شخصي لصالح الوطني العام.
ومع اتضاح صورة القوائم المترشحة وحظوظها، ومع إجراء استطلاعات رأي، تبين بأن قائمة فتح المركزية ستتصدر المشهد، وستكون أكبر الفائزين، ومع اعتبار أن قوائم فتحاوية أخرى ستجتاز نسبة الحسم، فهذا يعني بأن الفتحاويين عموما، سيحصلون على نصيب الأسد من المجلس التشريعي الثالث، بما لا يدع مجالا للشك، أو يبرر لأحد القول، إن القيادة في حال أعلنت عن تأجيل أو حتى إلغاء الانتخابات، إنما تفعل هذا لتقطع طريق الفوز، على «المعارضة»، لكن حقيقة الأمر تقول، إن فتح تحلت دائما بالمسؤولية الوطنية، في حين أن غيرها مارسوا وأدمنوا المعارضة، التي في الحالة الفلسطينية، تشارك في مغانم الحكم، وتتحلل من المسؤولية، حتى تبقى على نظافة يديها، أو على طهر زائف.
كل من يرفع عقيرته اليوم بإعلان رفض تأجيل الانتخابات، رغم عدم وجود ضمانات دولية، حتى في ممارسة الرقابة على الانتخابات، وإسرائيل بالمناسبة، كانت حذرت من قبل، الدول بعدم إرسال المراقبين، خوفا من «كورونا»، هو إما طامح للحصول على امتياز شخصي على حساب الصالح العام، أو أنه يدفع باتجاه التصالح مع الاحتلال، أي قبول أن يعيش الشعب الفلسطيني حياته في ظل الهامش الاحتلالي، بما في ذلك إجراء الانتخابات، وتكريس الحكم الذاتي للسكان دون الأرض والوطن.
والحقيقة، أن الجديد في المشهد، هو دخول مئات ممن يقدمون أنفسهم، دون أن يرف لهم جفن، على أنهم مستقلون، وكأن شرف الانتماء لفصائل العمل الوطني، بات سبة أو منقصة، ويقدم هؤلاء أنفسهم على أنهم خبراء وتكنوقراط، أو حتى رجال أعمال، أي أنهم عاشوا حياتهم من أجل مصالحهم الخاصة، لم يتعرضوا لاعتقال، وحققوا مشاريعهم الخاصة في ظل الاحتلال، لذا لا يجدون غضاضة في البقاء بظله، وفي تكريس واقع التعايش معه!
إن اللحظة تتطلب حذراً والتحلي بالمسؤولية الوطنية، والتفكير مليا قبل رفع عقيرة المعارضة السياسية، والتي هي في حقيقتها مجرد اعتراض سياسي، ذلك أن المعارضة الحقيقية هي معارضة مسؤولة أيضا، وفي المشهد كثير من اللغط وشيء من الفوضى، وهذا لا يقتصر على الواقع الفلسطيني وحسب، بل يشمل كل المنطقة، بما في ذلك إسرائيل نفسها، وأقل ما يمكن قوله، هو أن هناك انتشاراً لثقافة الفرجة، وتبرئة الضمير بمجرد إعلان «التضامن» مع الطرف المظلوم، وكأن واقع الفرجة على مباراة كرة قدم، يسحب نفسه، على واقع الحياة، ففي حين واجه الشبان المقدسيون الحواجز الحديدية بصدورهم العارية، تفرج عليهم «مرشحو القوائم» الانتخابية، الذين يعيش بعضهم «الدور» مبكرا، وبات يرى أنه قد صار نائبا، يتحدث باسم الشعب، ومن داخل غرفة مغلقة، عبر فضاء وهمي أزرق.
إن استمرار ممارسة البعض لدور المعارضة، والتحلل من المسؤولية، أو من المشاركة في اتخاذ القرار المسؤول، يتطلب من القيادة الفلسطينية، أن تجبر هذا البعض على القيام بواجبه، وحيث إن قرار إجراء الانتخابات، قد جاء بالتوافق، فيما كانت المراسيم الرئاسية بمثابة تنفيذ للتوافق الجماعي، فعلى القيادة، أن تعود للتوافق، وتتخذ القرار مرة أخرى، في هذا السياق، حتى تتجنب اللغط، والموقف التلقائي، الرافض لكل ما تفعله، حتى لو جاءت بلبن العصفور، واللحظة فارقة، والثمن باهظ، ورغم أهمية الانتخابات في إنهاء الانقسام، وفي تجديد الشرعيات، وفي تنفيذ الاستحقاق الشعبي، إلا أن القدس أغلى من كل هذا، والشعب بحاجة كما قلنا مرارا وتكرارا لقيادة وطنية تتقدم صفوف التضحية، وليس بحاجة إلى مزيد من التكنوقراط الوظيفي، محترف العمل السياسي، مقابل أجر أو امتياز.
وبالطبع إن إسرائيل لا ترى بعين الارتياح كل ما من شأنه أن يكون في صالح العام الوطني الفلسطيني، من شاكلة إجراء الانتخابات، لذا فإن فرض إجرائها في القدس، هو معركة بكل معنى الكلمة، هذا هو ما يجب أن يدور الحديث حوله، في حوار داخلي بين فرقاء الحوار في القاهرة الذي توافق على أجندة إجراء الانتخابات، وبهذا نغادر مربع المجابهة التقليدي، بجلوس الفرقاء على مقعدين متجابهين، موقع المسؤولية والمعارضة، ليتحمل الجميع مسؤوليته، كما كان الحال في ميادين الكفاح المسلح والانتفاضة، اليد باليد والكتف بجوار الكتف، وهذا هو المعنى الحقيقي لإنهاء الانقسام، وليس كل تلك الصيغ من الشراكة في المغانم، فطالما هناك احتلال، ليس هناك من مغانم، بل هناك تضحيات ومقاومة متواصلة، وتنافس بين الفرقاء على التضحية بما هو شخصي لصالح ما هو وطني عام.