نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - لولا أن معدلات الإصابة بفيروس كورونا في إسرائيل قد وصلت إلى تخوم العشرة آلاف إصابة يومياً لصحّ وانطبق على مغازلات نتنياهو لبعض الفلسطينيين في الداخل (نظرة فقبلة فعناق...).
هجوم منظم على الصوت العربي لنهش الجسد الوطني لأهلنا في الداخل، وتفتيت وحدتهم، وتشتيت ولائهم وانتمائهم، وللحد من تعاظم دورهم ومكانتهم قبل فوات الأوان...!
عناوين هذا الهجوم تجاوزت ـ على ما يبدو ـ «تجنُّح» الحركة الإسلامية الجنوبية ـ كنايةً عن التغريد خارج السرب ـ حتى وصلت إلى زيارات نتنياهو لبعض المدن والتجمعات الفلسطينية الكبيرة، لأم الفحم والطيرة والنية بزيارة الناصرة نفسها، ثم الإعلانات عن ترشحات لبعض «الرموز» في قوائم «الليكود»، وعن وضع أسماء عربية في قوائم أخرى، بعضها في مواقع «مضمونة» وبعضها الآخر في مواقع رمزية وهامشية.
 بعض بوادر البعثرة والتفتت التي يمكن أن تحصل للصوت العربي الفلسطيني هذه المرة له من الأبعاد السياسية ما يفوق حجم هذه الأصوات بكثير، وبما لا يُقاس مع سابق أي مرة أخرى. السبب في ذلك أن هذا يحدث أو يمكن أن يحدث بعد وفي خضم استمرار الاستهداف الصهيوني عموماً واليميني المتطرف على وجه الخصوص والتحديد.
ولم يعد هذا الاستهداف الذي عبّر عنه وجسّده قانون القومية، وقوانين عنصرية أخرى قبله وقوانين أخرى عنصرية وتمييزية ستلحق به عند كل فرصة ومحطة سانحة أو «مناسبة».. لم يعد هذا الاستهداف يحتل أي مكانة في هذه المغازلات إلا في حالة واحدة ووحيدة يلفها بعض التردد وتنقصها القناعات المثابرة.
أي أن المغازلات الحالية والتي يمكن أن تتبلور قبل موعد إغلاق القوائم ستكون في غالبيتها ـ وليس كلها ـ مجردة عن الاعتبار الوطني الخاص بالبعد القومي لنضال فلسطينيي الداخل، ومحصورة أو تكاد بالبعد المتعلق «بالحقوق» الاجتماعية الاقتصادية ليس من زاوية المساواة في حقل هذه الحقوق، وإنما من زاوية تقليل درجة الإجحاف بها او الحصول على بعض المزيد منها.
وإذا جاز اعتبار هذه المغازلات كظاهرة جديدة تولدت عن حالة سياسية معتلة في بنية القائمة المشتركة بقدر ما يتعلق الأمر هنا بالصوت العربي الذي تدفق لصالح هذه القائمة في الانتخابات الأخيرة، فليس من الجائز تجريد هذه الحالة عن واقع التماسك الوطني لفلسطينيي الداخل المعبّر عنه في أشكال أخرى مثل لجنة المتابعة وما تمثله من أهمية ومكانة في إطار هذا التماسك، وأشكال متنوعة أخرى.
صحيح أن أهل مكة أدرى بشعابها، وصحيح أن «أهل مكة» قد اثبتوا في محطات وطنية كثيرة بأنهم على قدر المسؤولية، وعرفوا كيف يتصدون لظواهر سابقة كثيرة، ونجحوا في إعادة استنهاض شعبهم وتحشيده للدفاع عن وجوده وتحصين كيانيته القومية ورفع مناعة الجسد الوطني الفلسطيني للاختراقات الصهيونية، الا ان ظاهرة «الاختراق» الجديد تتطلب الحديث الصريح حولها.
لم يكن سهلاً على أحد أن يدخل في دائرة المغازلات مع اليمين لو أن القائمة المشتركة كانت قد تأسست على ركائز أكثر متانة من الركائز التي تأسست عليها على عجل في ضوء إقرار الكنيست لنسبة الحسم.
هنا فإن الدرس واضح:
ليس هناك، ولم يكن هناك بالأحرى ميثاق وطني ملزم لكل مكونات القائمة، ولم تكن التوافقات كافية للحفاظ على وحدة القائمة واستمرارها، ولم يكن هناك ما يكفي من الضوابط لتنظيم الخلافات ومعالجة الاختلافات، ولم يكن من الأشكال الرقابية والاستشارية على هيئة مجالس موسعة بمشاركة فاعلة ونشطة من المجتمع المدني الفلسطيني في الداخل لرأب التصدعات التي كانت متوقعة في ضوء خصوصية النشأة والتكوين.
وحتى لو وجدت مثل هذه الأشكال بصورة غير رسمية أو مرسّمة فمن الواضح أن غيابها كان ثغرة حقيقية لا يمكن نكرانها.
وفي الواقع فإن عدم قيام القائمة المشتركة قبل «الإنشاء» الإجباري الذي أملته نسبة الحسم الجديدة آنذاك هو بحد ذاته الثغرة الأكبر، وهو أحد منابت الخلل في فهم الواقع القائم، اليوم.
لكن مربط الفرس في الهجوم الصهيوني الجديد لتفتيت الصوت العربي ليس مجرد مسألة انتخابية، وليس محاولة للاقتناص في ظل «توفر» أرضية مناسبة مهدت لها الحركة الإسلامية الجنوبية أو الشخصيات الرخوة وطنياً، أو حتى امتعاض بعض هذه الشخصيات أو من شاكلها من أداء لجنة المتابعة او غيرها من الأسباب والمبررات.
الموضوع أوسع وأكبر وربما أخطر من ذلك كله.
الانطباع الذي لديّ، وهو انطباع وليس رأيا متبلورا بعد، لأن الأمر يحتاج إلى مزيد من التمحيص ويحتاج إلى المزيد من القراءة والمتابعة.. الانطباع هو أن هناك ثلاثة عوامل رئيسة شجّعت اليمين الصهيوني على هذا الهجوم:
الأول، ويتمثل في أن فئات معينة التي تنتمي للطبقة الوسطى في المجتمع الفلسطيني في الداخل قد نمت وتطورت وبدأت بالتبلور الثقافي والاجتماعي وأصبح لها او لديها «تصورات» سياسية تنزع نحو درجة معينة من «الاستقلالية» عن النهج والسياق والمسار القائم، والذي تعتبره هذه الفئات مساراً تقليدياً لا يستجيب لطموحاتها.
لا أظنّ أبداً أن فئات من هذا القبيل هي نبتة شيطانية في الواقع الفلسطيني في الداخل، وهي ربما تتشابه مع فئات مناظرة لها في المجتمعات الأخرى، بما في ذلك تلك الموجودة في المجتمعات العربية المجاورة والمحيطة. وهنا يمكن ملاحظة أن خطاب الحركة الوطنية لم يصل لهذه الفئات، أو لم يصل كما يجب، أو لأن مثل هذا الخطاب ليس موجوداً أصلاً وبما يجابه مفرزات الليبرالية الجديدة.
والثاني، أن هناك حتى، الآن، مئات آلاف الأصوات التي تقاطع الانتخابات لأسباب تتعلق بعدم توفر القناعة بالنضال البرلماني وعدم جدوى هذا الشكل كما تعبر عنه هذه الأعداد الكبيرة، بل ويعتبر هؤلاء ان الأسرلة هي النتاج الحتمي لهذا الشكل من النضال لأنه يتحول إلى هدف بحد ذاته، ولأنه «يعوّم» الخطاب القومي ويمحو التخوم العنصرية أو يموهها.
هنا، أيضاً، فإن خطاب الحركة الوطنية ما زال قاصراً عن تقديم البرامج والممارسات السياسية التي تفند هذه الأطروحات، وكيف أن مقاطعة هذه الأصوات تصبّ في نهاية المطاف في طاحونة الأحزاب الصهيونية لتهميش المجتمع الفلسطيني وإقصاء طاقته وتحويل محتواها التحرري المشروع إلى حالة سلبية.
أي أن المقاطعة هي الوجه الآخر للأسرلة، أو هي أسرلة مقلوبة بالرغم من النوايا الطيبة لأصحابها وبالرغم من المقاصد الوطنية التي تقف خلفها.
ما زال خطاب الحركة الوطنية هنا قاصراً على ما يبدو.
والثالث، هو غياب او نقص في الإمكانيات الثقافية والإعلامية والتربوية التي تعيد بناء الهوية للجماعة القومية في ظروف العولمة الجديدة، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وتفوق الدعاية الصهيونية وهي أمور لم يعد بمقدور أي قيادة سياسية الاستغناء عنها لمجابهة المال السياسي ومواجهة الرشى الاجتماعية والامتيازات التي يستطيع الطرف المقتدر تقديمها واللعب والتلاعب بها.