نابلس - دكتور محيي الدين عميمور - النجاح الإخباري - لم يكن من الممكن أن يمر هذا الاثنين 28 سبتمبر بدون أن أتذكر ما عشته مساء ذلك اليوم منذ خمسين سنة، فقد توقفت اللقمة في حلقي والمذيع يعلن وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وشعرت بألم شديد لأن آخر مقالاتي كانت هجوما حادا عليه إثر قبوله مبادرة “روجرز” (مجرد القبول اللفظي بمبادرة أمريكية)

وتنتهي نشرة الأخبار وتعلن مذيعة الربط عن أغنية عاطفية أعتقد أنها كانت لعبد الحليم حافظ، وأستشيط غضبا، فأرفع سماعة الهاتف لأطلب الصديق المدني حواس ولأصب جامّ غضبي على قلة الذوق وانعدام الوعي الذي تجسد في تصرف التلفزة الجزائرية، والتي تبث أغنية عاطفية في مثل هذه الساعة الحزينة.

كنت آنذاك مجرد طبيب ناشئ يمارس الكتابة كهواية، وكان المدني، وهو من المجاهدين الذين أقاموا الإذاعة الجزائرية السرية في مرحلة الثورة، قد عاد إلى بيته بعد أن أكمل عمله كمدير للأخبار في التلفزة، وتلقى مكالمتي العاصفة بهدوء أخوي، ومرت دقائق معدودة وقُطع الإرسال العادي وأخذت التلفزة وتبعتها الإذاعة في بث آيات من القرءان الكريم، كما مألوف في حالات الحداد الوطني.

ومن حق أي شاب في هذا العصر أن يشعر بالدهشة عندما يعرف أن المدني لم يتلقَّ على مبادرته أي لوم أو توبيخ أو حتى عتاب، ناهيك من العقاب الذي كان يمكن في عصر آخر أن يصل إلى حدّ الطرد من الوظيفة، لأن إعلان الحداد الوطني هو من صلاحيات رئيس الجمهورية وحده.

وكان هذا الموقف بالذات صورة حية لتعامل القيادات الجزائرية مع المناضلين الذين يقومون بواجبهم في مختلف مراتب المسؤولية الوطنية، والتي كان جوهرها احترام روح المبادرة التي سجل بها المدني أول علامة تقدير من الجزائر لزعيم عربي، كان في طليعة من دعموا الثورة الجزائرية.

وعمّ الجزائر حزن عميق، وتذكر شعبنا الزيارة الوحيدة التي قام بها الزعيم المصري للعاصمة في مايو 1963، حيث لقي استقبالا هائلا لعله تفوّق على استقبال العاصمة السودانية له بعد ذلك في 1967، وربما استقبال دمشق قبل ذلك في 1958.

وسجل الجزائريون بذلك الاستقبال تقديرهم للرئيس الذي كان تأييده للثورة الجزائرية من أسباب الهجوم الثلاثي الذي تعرضت له بلاده في 1956، ونُقل يومها عن دافيد بن غوريون قوله إن هزيمة عبد الناصر تبدأ بهزيمة الثورة الجزائرية.

والذين يعرفون طبيعة الشعب الجزائري وتلقائيته في التعامل مع الأحداث الوطنية لم يدهشهم التناقض بين ذلك الاستقبال الحماسي الكبير وصيحات الاستهجان الجماهيرية التي انطلقت في شوارع الجزائر إثر قبول الرئيس المصري وقف إطلاق النار في يونيو 1967، والتي راحت تصرخ بما يقترب من الهستريا الجماعية … “ناصر …قاتل أو مُتْ وأنت وتقاتل”

وكان الغريب في تسلسل الأحداث التاريخية أن هذا العام (1967) شهد نهاية الشنآن الذي بدأ في منتصف الستينيات بعد عزل الرئيس أحمد بن بله، وكان صدمة للكثيرين في الوطن العربي لم يكونوا يعرفون حقائق الميدان في الجزائر.

يومها ساءت العلاقات بين القيادتين، وقيل أن العلاقات ساءت أكثر عندما أرسل الرئيس هواري بو مدين عبد العزيز بو تفليقة في أغسطس 1966 راجيا تخفيف الحكم بالإعدام على سيد قطب، وترددت معلومات بأن النظام المصري حاول طوال سنتين تنظيم محاولة لتهريب بن بلة، وهو ما رواه لي أول أمس محمد بن بله،  ابن أخ الرئيس الأسبق.

لكن كل ذلك سقط إلى الأبد مع وقفة بو مدين بعد ذلك مع مصر وسوريا إثر هزيمة يونيو 1967، وكان ذلك بداية تعرف الجميع على شخصية الرئيس الجزائري.

وأنا أعرف أن هناك من يأخذون على المثقف كل كلمة خير تقال في حق من يرون أن عبد الناصر دكتاتور مستبدّ استراح منه كثيرون، ولهؤلاء أقول بأنني، وبكل إيمان بما أفعله، أدين موقفهم، ببساطة لأنني أعرف أن العدو الصهيوني والاحتكارات الرأسمالية الدولية والإقطاعيات السياسية الطفيلية كلها لا تخفي سعادتها بغياب قادة من نوع جمال عبد الناصر وأحمد بن بله وهواري بو مدين وفيصل بن عبد العزيز ومحمد الخامس، وهذا يكفي لاحترام القائد الراحل، وبغض النظر عن أي اعتبار آخر.

وأنا أرفض الأصوات المنكرة التي تعيب على مناضلي الوطن العربي تمجيدهم لرجالاته، وتدعي أن “تشخيص” العمل الوطني هو الذي وصل بنا إلى حضيض الحضيض، وهم يتناسون أن الأمم تعرف بأسماء من تركوا بصمات على مسيرتها، فألمانيا يجسدها اسم بسمارك وروميل وبيتهوفن وأديناور، وفرنسا يرمز لها اسم نابليون وريشليو وشارل دوغول وروسّو بل وبريجيت باردو، وبريطانيا يُذكر بها اسم ونستون تشرشل ومونتغمري وبرنارد شو بل والخنافس، وهلم جرّا.

ولعلها أيضا فرصة لأتوقف عند بعض النقاط التي أرى أن ضعف تفهمنا لها وسوء حكمنا عليها كان سببا في وصولنا جميعا إلى مرحلة الرداءة، وفي كل مجال.

وأنا أدعي أن المأساة الحقيقية مع قيادات وطنية من نوع جمال عبد الناصر أن أنصار القائد مجّدوه إلى حد التقديس، ويكفي أن نتذكر عدد الأغاني التي كانت تتغزل به.

ولأن القائد هو بشر أولا وقبل كل شيئ فإن المبالغة في التمجيد تصل به إلى شبه يقين بأنه دائما على حق ولا يخطئ أبدا، وهذا ما يدفعه إلى ارتكاب الأخطاء التي تُحوّل خصومه إلى أعداء ألداء، وأعداءه إلى قوة قاهرة، وحلفاءه إلى مادة لزجة من اللامبالاة.

ولعل أهم الأمثلة مثال أدولف هتلر، الذي لم يكن، كما ردد المنتصرون، مجرد شاويش نمسوي وفنان فاشل ومعقد جنسيا، بل كان وطنيا ألمانيا برغم ولادته في النمسا التي كان يراها جزءا من ألمانيا، وهو ما يفسر وحدة “الأنشلوس” التي أقامها قبل اشتعال الحرب العالمية الثانية بشهور.

ورغم كل جرائم هتلر واضطهاده لمعارضيه فلا يمكن إنكار أنه استطاع أن يُحوّل الحطام الألماني الذي تجسد في جمهورية “وايمار” إلى أقوى قوة عالمية في الثلاثينيات، مع الاعتراف بأن أهم العناصر التي مكنته من ذلك هي معاهدة فرساي 1919، التي كانت شروطها المُهينة سلاحه في استثارة الحمية الألمانية، وهو ما تبرزه آلاف اللقطات المصورة عن الحماس الكبير الذي كان يلقاه من الشعب الألماني.

وربما كان هذا الحماس الهائل هو السبب الأول في سقوط هتلر، فقد وصل إلى اليقين بأنه دائما على حق، وكان ذلك اليقين هو الذي أعمى بصيرته فأطلق عملية “بارباروسا” ضد الاتحاد السوفياتي، ولم يتعظ بدرس نابليون بونابرت، الذي لم يفهم بأن أهم جيوش الروس التي لا تهزم قط هو فصل الشتاء.

وأتصور أن شيئا كهذا حدث مع جمال عبد الناصر، ولعل بداية النهاية في ملحمة عبد الناصر كانت انتصاره السياسي في 1956، فقد كان الحماس الجماهيري العربي الذي فجرته هزيمة ثلاثي العار، وبدون أي تشكيك في إخلاصه وعفويته، أشبه بالمخدر الذي يؤثر على توازن أي إنسان.

ومن الصعب أن أتعرض في هذا المجال لكل عناصر التجربة الناصرية، وفيها الكثير مما يستحق الاعتزاز والتفاخر كما أن فيها ما يستوجب النقد بل والتنديد، لكن الشيئ المؤكد، في نظري، هو أن عبد الناصر كان يمتلك نظرة إستراتيجية عميقة للوضعية العربية، ماضيا ومستقبلا، وهو أدرك منذ البداية أن النضال الحقيقي يجب أن يتركز على تحقيق التنمية الوطنية، وكان الغريب أن أعداءه، بمن فيهم بعض الأعراب، فهموه بأكثر مما فهمه الكثيرون من أنصاره ومحبيه.

والغريب أن الأشقاء الذين يتهمون عبد الناصر بالدكتاتورية والعداء للديموقراطية يأخذون عليه “التفريط ” في السودان الذي كان، كما يقولون، جزءا من المملكة المصرية، في حين كان من الدكتاتورية الحمقاء أن يُرفض حق الشعب السوداني في تقرير مصيره، والذي كان إسماعيل الأزهري في مقدمة المنادين به، رغم أنه كان زعيم الحزب الذي كان ينادي بالوحدة مع مصر.

ولن أرفض اتهام الرئيس المصري بالدكتاتوري، بالمعنى الروماني للتعبير، ولكن دكتاتورية ناصر لم تكن هي التي تزعج أنتوني إيدن وغي موليه وبن غوريون والإخوة دالاس وجونسون، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين كانوا أنصار وداعمي موبوتو وبوكاسا وبينوشيه، وقبلهم فرانكو وسالازار، وبعدهم ضياء الحق وحافظ الأسد، وهو ما يُعتّم عليه دعاة الديموقراطية الزائفة التي يُبشر بها الشمال ليخفي أطماعه.

ولقد قرأت لمن يعاير عبد الناصر بأنه رفض النهج الذي نادي به الحبيب بو رقيبة في أريحا، منتصف الستينيات، وكان مضمونه الاعتراف بقرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة في 1947، لأن الحقيقة هي أن الرئيس المصري سبق أن عرض ذلك في إطار إعداد مؤتمر باندونغ في 1955، واشترط، بمناورة ذكية صاغها محمود فوزي، أن يعلن الطرف الآخر قبول القرار الأممي، وهو ما كان تحديا ذكيا رفَضَه الكيان الصهيوني فعزل نفسه عن المجموع الإفريقي الآسيوي، واستفادت القضية العربية من ذلك إلى أن حدث ما حدث في نهاية السبعينيات، وأصبحنا …يدٌ “من قدّام” ويد “من وَرا”، حسب التعبير الشعبي المعروف.

ولقد كان من أخطاء جمال عبد الناصر السياسية تعامله الشرس مع جماعة الإخوان المسلمين، وكنتُ تناولتُ جانبا منه في أحاديث سابقة، لكن من الظلم التاريخي أن نحمله وحده مسؤولية الصراع الذي أعتبره من أسباب الانهيار العربي الإسلامي، وهذا الأمر يحتاج من كل وطني وقفة جادة لدراسته ووضع كل شيئ حيث يجب أن يوضع، بعيد عن المزايدات والمناقصات.

 وتظل هزيمة يونيو 1967 اللعنة التي تلاحق عبد الناصر، وإذا كنت أزعم أن التاريخ سوف ينصفه بأن ينزع من أعبائه جزءا هاما من مسؤولية ما حدث، فإن ما لا يمكن أن نبرئه منه هو أنه ترك كل شيئ في يد قائد عسكري لم يكن يملك مؤهلات القائد العسكري، وبدون التشكيك في وطنيته وحبه لبلده.

ولقد كان ناصر يعلم أن العدو سيهاجمه، وهو ما أكده لي شخصيا الملك حسين خلال زيارته للجزائر، غير أن الرئيس المصري احترم تحذير الجنرال دوغول، ورفض حماقة البدء بحرب وقائية، كانت خسارتها السياسية أخطر من خسارتها العسكرية.

وتأكد أن تعبير “برقبتي يا ريّس” كان بلاغيات فارغة، ولم يُجسّده موقف ميداني بسيط قوامُه الدفاع الجوّيّ اليقِظ وإبعاد الطائرات المصرية كما حدث في 1956.

والمهم اليوم هو أن نصف قرن مرّ على انتقال عبد الناصر إلى رحاب الله، وهي مدة تكاد تعادل جيلين من الرصيد البشري للأمة، وهو ما يعني أن النكسات التي نعيشها اليوم يجب ألا تمتص كل طاقتنا التحليلية وتمنعنا من دراسة ما عشناه وعايشناه، بوعي وإدراك وفهم حقيقي لظاهرة بسيطة تقول بأن الحُمّى ليست مرضا وإنما هي من أعراض المرض.

وكمجرد مثال يجب أن نتعمق في دراسته، فإن جرائم نابليون ووحشيته في التعامل مع خصومه وأعدائه، بل وما رُوى عن “دياثته” فيما يتعلق بجوزفين، كل ذلك لم يمنع بلاد الجن والملائكة من اعتباره ظاهرة وطنية كبرى في تاريخ فرنسا، وضريحه هو قبلة عشرات الملايين.

وهذا يعني أن أمة تستهين برجالها سوف يلعب أطفالها بمصيرها، ومناضلون يجهلون الفرق بين الأعداء والخصوم، وبين ما هو استراتيجي وما هو تاكتيكي، هم مجرد هواة يقودون جماهيرهم إلى الدمار النهائي، الذي يتجسد في ترسيخ اليقين بأنه لا أمل في المستقبل، لأن الصورة التي تُضخّ في عقولهم وتترسخ في وجدانهم تقول إن الماضي كان سلسلة من الهزائم والنكسات.

 ومن فشل في الماضي لن ينجح في المستقبل.

رحم الله جمال عبد الناصر وغفر له وألهم كل مناضل القدرة على القيام بالفرز الدقيق للمواقف وللرجال، وعلى مراجعة النفس قبل أن يفوت الأوان.

ورب يومٍ بكيت منه فلما صرتُ في غيره بكيْتُ عليه.

نقلا عن جريدة رأي اليوم..