نابلس - نادية هناوي - النجاح الإخباري - لطالما أنّت الشعوب العربية المقهورة تحت سياط الاستبداد الاستعماري قروناً، وما كان لها أن تهب مناضلة من أجل حريتها مكافحة الوحشية والاستبداد والبربرية لولا الوعي الذي نوّرتها به الانتلجنسيا التي كانت لها فاعليتها قبيل منتصف القرن العشرين وما بعده في أوساط الطبقات العمالية والفلاحية والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة. بيد أن هول التحديات التي صارت ترزح تحتها الشعوب العربية من جانب وتجرد الانتلجنسيا العربية من إمكانياتها النظرية والعملية من جانب آخر جعل الستارة تسدل على تاريخ النضال الجماهيري العربي، وتحول الفوران الجماهيري الشعبي إلى فتور وجداني وخمود فكري، بسببه أصبحت الشعوب العربية صريعة الفرقة والتنابذ. وما أن حلت الألفية الثالثة حتى كانت ثورات الربيع العربي مثالا حقيقيا لهذا الجيل المتفتح الذي نفض عن كاهله مآزق أجيال سبقته كانت قد غشيت بصيرتها التبعية الاستعمارية ومخططات الإمبريالية التي تولت تنفيذها بيادق الشطرنج العربي حكاّما وحكومات. وعادت الانتلجنسيا تناهض أيضا ضد الفاشست العربي بكل عناوينه ومسمياته، ولم تعد الماكنة الإعلامية قادرة على التأثير بالجهل والوهم.

وعلى الرغم من تفاوت نسب ما حقق الربيع العربي من إنجاز في بلداننا العربية، فإن فلسطين ظلت قضية العرب المركزية والعنوان المصيري الذي لا تنازل عنه في كل ثورات الربيع العربي، وبقي أمل الشعوب العربية معقودا على ذاك اليوم الذي فيه تكون فلسطين أرضا حرة ودولة أبية.

بيد أن الإخفاقات والخيبات التي رافقت الربيع وتلته أيضا لاسيما التحديات الكبرى التي ابتليت بها منطقتنا العربية والمتمثلة بالإرهاب التكفيري على إثر قيام ما سمي بتنظيم الدولة الإسلامية المزعومة إلى جانب جبهات وتيارات إسلاموية.. كل ذلك جعل ما بقي في النفوس من آمال يتآكل ويتلاشى شيئاً فشيئاً.

وكان من تبعات ذلك التآكل والتلاشي أن القضية الفلسطينية ما عادت لها الأولوية والمركزية. وليس غريبا بعد كل ذلك التدهور والتردي الكبيرين أن يكون الانهزام والتنازل والتطبيع والتهادن أمرا معمولا به تحت غطاء حل النزاع العربي الإسرائيلي بالطرق التي ترضي الكيان الصهيوني. بيد أن تلك الطرق عقَّدت النزاع ولم تبسطه لا بمبادرة السلام الدولية أو ما سمي الأرض مقابل السلام ولا بالمشروع السعودي لحل النزاع العربي الإسرائيلي في عام 2002 ولا بما قبلهما متمثلا بمشروع خارطة الطريق التي أرادت للتسوية السلمية أن تنتهي بحلول 2005 وبمراحل ثلاث ومن بعدهما أيضا اتفاق حماس وفتح في مكة عام 2007.

والسؤال إذا كان هذا هو حال العرب اليوم فمن الذي سيعيد الحق لأهله؟ وما الملتجأ الذي إليه نفر، وأمامنا الوحشية الإمبرالية والصهيونية، ومن ورائنا نار الأصولية؟ وإلى متى نظل كائنات مسجونة في دواخلنا وضائعة في خوارجنا والعالم بالنسبة لنا كهف سبات كبير؟ ولماذا لا نستثمر الحرية الناعمة المتاحة لنا افتراضيا في امتلاك التفكير الحر والواعي؟ وهل يمكن لنا أن نتحرر من سباتنا مطوعين فكرنا، الذي شوشته دوائر الثقافة والإعلام المضادة عقودا ليكون في خدمتنا، منتفضين على كل القيود التي كبلتنا وأرعبتنا حتى صرنا سجناء فيها بالوهم والتزييف وأسرى اليأس والخيبة؟

وليس بعد هذه الحال المريرة أن نتساءل متى إذن تعتلي شعوبنا العربية دفة حكم التاريخ؟ وأين الشجاعة والثبات والبطولة التي كانت عليها الأجيال السابقة لها؟ وما الذي ستدخره وتحفظه من خيبات وتنازلات للأجيال القادمة؟ هل تسامح أجيال المستقبل شعوب اليوم على سكوتها وتخاذلها وتعذرها على سباتها وهي تستسلم أمام ما ينبغي عليها أن تواجهه وتصمد بوجهه مخلصة لذكرى ثورات كانت فيها (فلسطين) هي قضيتها الكبرى؟

ليس من إجابات محددة ولكن هناك شواهد حاضرة تؤكد أن الوضع العربي اليوم مأساوي أكثر مما مضى وهو منخور إلى درجة أنه لا يحتمل لوماً ولا نهراً ولا تعاطفاً ولا شجباً؛ وإنما يحتاج استنهاضا صميميا يوقظ في العرب غفوة الضمير ويوقد في مواقفهم الباردة جذوة اللهيب.

قد نعذر جماهيرنا العربية التي تقف معضلات حياتها الاقتصادية والأمنية حائلة دون أن تكون لها ردة فعل كتلك التي كانت لها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حين كانت تخرج عن بكرة أبيها هادرة صادحة لا يهدأ لها بال وهي تحتج وتطوق سفارات الدول المتنصلة من القضايا المصيرية بالدنو البسيط من الكيان العنصري الصهيوني؛ لكننا لن نعذر مثقفينا الذين آثروا الصمت ازاء هذا الحدث الجلل.

وها هو اتحاد الأدباء والكتّاب العرب لا يتخذ موقفا واضحا من الاعتراف الإماراتي بالكيان الصهيوني، فهل تراه راضيا بما يجري؟ وأين هي القوى المحركة التي تسيِّر الثورة العربية وتأججها؟ أليست الوسائط الافتراضية في الشبكة العنكبوتية قادرة على فضح المحرفين المزيفين المطبلين للتطبيع والمروجين لمسألة الاعتراف؟ وأين هم المفكرون النهضويون الذين بوعي أفكارهم العميقة تتهاوى كل دعائم الوصولية والتعسف والتخريب والجمود، واضعين للعقل العربي خارطة التفكير الناضج والمسؤول؟ أم أن الانضواء تحت مظلة السلطة يمنعهم من قول كلمة سواء في أمر التطبيع خنوعا وتمييعا للقضية الفلسطينية؟ أين هي القلوب المدماة من الظلم والتعسف والغيرة العربية المشمئزة من المؤامرات والدسائس؟

ليس لنا بعد هذه التساؤلات غير أن نقول إن العربي ارتضى أن يكون غراباً ينعق في الخرائب بالظلام بدل أن يكون ديك الصباح المنتصر بالفجر. ولو أن العربي ساند أخاه العربي وتكاتفت الجماهير مع الجماهير لصارت قوة مدمرة تتحدى أعتى قوة تريد الوقوف بوجه قضايا الشعب والإنسان.

وبالطبع نحن واهمون إن خادعنا انفسنا وصدقنا دعوى أننا باستظلالنا بقوة دولة مثل أمريكا سنكون في مأمن من خطر أية دولة أخرى، بل الصحيح إننا بذلك نفتح على أنفسنا باب الاستقطاب الذي يجعلنا في مرمى نار القوى العظمى الباحثة عن مزيد من النفوذ والهيمنة.

إن عقوق المثقف العربي ليس في صمته عن قول كلمة حق إزاء معركة مصيرية وقضية مركزية مثل فلسطين، بل عقوقه الأكبر هو في تمسحه بالأذيال مبتغيا جنياً رطباً على حساب بؤس حياة يعيشها أبناء الوطن المحتل نزوحا وتشردا وكدحا، لاعبا دور المهرج فلا ثقافته تسل ضرما ولا توقد جمرا لاهبا كما يقول الجواهري. وإذا افترضنا أن الالتزام بقضايا الأمة قد غاب عن ذهن المثقف اليوم فما جدوى وعيه وهو في سباته ويقظته سواء؟

إن الموقف المشرف للمثقف العربي هو الذي فيه يعلن عن قوته الكامنة مؤمنا أن الخراف المهضومة يمكنها أن تنتج أسدا هصورا يذود عن الحياض معرّيا الحكام وفاضحا العقول التي ضلعت في ركاب المحتل الإسرائيلي.

وليس أمام المثقفين العرب اليوم سوى أن يقبضوا على الجمر وهم يدافعون عن شعوبهم بأقلامهم النيرة التي تكشف الفواجع والمآسي والآهات غير متنازلين ولا متخاذلين ولا مستسلمين بل الاحتجاج على كل ما يمس القضايا الوطنية والانسانية وفي مقدمتها القدس عاصمة فلسطين. وخلاف ذلك ستظل الجموع العربية غافية في سباتها، محجورة في كهوف الخذلان والمهانة، مذعنة إلى ما يحاك وراءها من ذرائع، بها يُستولى على أراضيها وتُسرق ثرواتها.

وهكذا فشل الربيع العربي وقبله بكثير كان الفشل نصيب التنوير العربي الذي معه سُوفت مشاريع التحرر والاستقلال وحلت محلها مشاريع الاغتصاب والاستسلام.

وانتفاض المثقف وثورته تعني أنه يناهض حكما ولا يعاضد نظاما ما دام ذاك الحكم وهذا النظام يصادر حريات الشعوب ويضطهد أبناءها ويضيع ثرواتها. وهو ما ينبغي أن تتحمل أعباءه المنظمات الثقافية العربية وفي مقدمتها اتحاد الكتّاب العرب وبقية الاتحادات والتشكيلات النقابية في كل البلدان العربية، هذا الاتحاد الذي قد تحمله رسميته على التردد في إعلان موقفه الشاجب للتطبيع بكل وضوح وقوة أو يمنعه أمله في الحصول على بعض الدعم المادي واللوجستي من الدولة المطبِّعة من أن يقول كلمته التي فيها كلمة جميع المثقفين المنضوين تحت لوائه.

وليس لنا دون ذلك كله إلا أن ننعى أنفسنا كما فعل نزار قباني في هوامشه على دفتر النكسة لنقول: لقد انتهى الفكر.. ولم تعد القصائد مالحة في أفواهنا.. ونحن غير خجلين من خسارتنا ولا مستغربين من صمتنا. لا نصرخ كي لا تتضخم أصواتنا التي تعلمت القنوط حتى تهدلت أوتارها ولم تعد أيدينا تطول حتى هاماتنا. وها هي الصهيونية تتسرب عبر أراضينا كتسرب النمل إلى أعشاش الطيور.

نقلا عن القدس العربي..