نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - لم تكن اتفاقيات أوسلو اختراقاً فلسطينياً للمشروع الصهيوني، مع أنها كان ممكناً أن تكون.
لم تتح لهذه الاتفاقيات فرصة العيش ولا البقاء، بسبب غياب وتغيب الحامل الإسرائيلي، وقصور حال وأحوال الحامل الفلسطيني لها، وتقاعس المجتمع الدولي عن ردع إسرائيل وهي تسعى وتحاول بكل "مثابرة" لإفشالها، ولا حتى ردع الجانب الفلسطيني عن سوء أدائه وإدارته، وإجباره على التراجع السريع عن مسار "العنف" الذي "تنطح" "الإسلام السياسي" لتوريط الساحة الفلسطينية به، بهدف الذهاب بالساحة الفلسطينية إلى المربع الذي يفضله اليمين الإسرائيلي وجيش الاحتلال، بل ويبحث عن الوسائل التي توقعنا في الشرك الذي نصبه لنا بخبث ودراية وعن سابق وعي وتخطيط.
ليس لأن مجابهة العنف الصهيوني ممنوعة علينا قانوناً، ومباحة بالكامل للآلة العسكرية الصهيونية، بل لأن هذا الميدان بالذات هو الميدان الوحيد الذي نخسر فيه المعركة سلفاً، في حين أن كل الميادين الأخرى لنا فيها قدر من المقارعة والصراع وقدر آخر من فرص الفوز والنجاح، ولأن من يفسر القانون الدولي هم القائمون عليه من الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي.
الخلاصة الأولى هنا هي أن اتفاقيات أوسلو على كل ما فيها من ثغرات ومساوئ لم تكن سوى محاولة فلسطينية للهروب من "جحيم" النظام العربي، الذي كان قد ضاق ذرعاً بنا، وطلب منّا أن نقلّع شوكنا بأيدينا، واعتذر عن استمرار "استضافتنا"، وأصبح "يغمز" من زاوية أحقيتنا الشرعية، ومن زاوية استمرار دعمنا وإسنادنا بما هو أبعد من بيان في ديباحات الاجتماعات والقمم العربية.
كانت محاولة وفشلت وأُفشلت.
كانت اتفاقيات مؤقتة لمرحلة مؤقتة، وحول قضايا انتقالية، وطالت واستطالت بسبب أن الاستحقاقات الخاصة بالحل النهائي كما كان مفترضاً ليست بوارد المشروع الصهيوني وطموحاته وأهدافه، وقوته التي توفر له التنكر لتلك الاتفاقيات، والتنصل منها، ودفنها حين تلوح الفرصة المناسبة.
خسرنا كثيراً من لحمنا الحيّ جراء مسار هذه الاتفاقيات، وخسرنا من وحدة شعبنا، ومن تماسك حركتنا الوطنية، وخسرنا الكثير من البعد الشعبي لقضيتنا الوطنية على المستوى القومي الشامل، ولم نتمكن أبداً من أن نكسب النظام العربي بالمقابل لصالح التصدي لكل محاولات إسرائيل الرامية لتدمير ليس فقط الاتفاقيات، وإنما كامل مسار السلام وطريقه وكل من يدعو له.
وخسارتنا كبيرة وكانت مؤكدة ليس لأن مسار أوسلو هو مسار (استسلامي) كما يحلو للبعض وصفه، وإنما بسبب أننا رفضنا أن يكون كذلك كان بثمن باهظ، ونحن في الواقع اليوم ندفع هذا الثمن بالذات.
وعندما "اكتشفت" إسرائيل أننا لن نقبل بأقلّ من دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران، والقدس الشرقية عاصمة لها، وليس أقل من حل عادل ـ "ومتفق عليه"  لقضية اللاجئين بدأت علينا الحرب من كل جانب.
باختصار نحن نخوض معركة الحفاظ على كل ما فشلنا بتحقيقه في مفاوضات أوسلو، وفي اتفاقياتها.
وبدأنا مسار التراجع عن هذه الاتفاقيات في ظروف غاية بالصعوبة والتعقيد، إن كان على صعيد ظروف الحياة الاقتصادية، أو على صعيد انقسامنا بعد أن وضع "الإخوان المسلمون" قضيتنا في مهبّ التجاذبات الإقليمية، وبددوا إمكانيات شعبنا وراء مصالح ونفوذ هذه التجاذبات، وبعد أن حولوا أكثر من مليوني فلسطيني كرهائن لمشروعهم.
حاولنا وفشلنا، نجحنا في قضايا مهمة، ولكننا فشلنا في قضايا أكبر وأهمّ.
فشلنا في مسار تحويل السلطة إلى دولة، وأُفشلت محاولتنا في وقف مسار الاستيطان والزحف والضم والمصادرة، وبكلفة بشرية باهظة، وعبر أربع أو خمس جولات عسكرية ـ غير متكافئة ـ وأُفشلنا في حوالى 9 محطات سياسية إقليمية ودولية، دون أن نقدم تنازلاً واحداً عن حقنا بتقرير المصير وإقامة دولتنا المستقلة، وحق اللاجئين بالعودة على أساس قرارات الشرعية الدولية.
والحقيقة أن الخالد ياسر عرفات قد قتل لأنه رفض الخنوع، وتمرد على الواقع الذي حاول الأميركيون والإسرائيليون تكريسه.
وبالتالي فقد كنّا في خضم معركة ضارية نحن الطرف الضعيف فيها سياسياً بالقياس إلى الواقع الوطني الخاص، والواقع الإقليمي وحتى الدولي نفسه.
كنا وما زلنا نخوضها بكل ما لدينا من قوة ومن إمكانيات.
وقد تمكنا في ظروف استثنائية من أن نخلق واقعاً سياسياً على مستوى التأييد الدولي، وحتى الإقليمي لحقوقنا الوطنية، واستطعنا أن نعيد للقضية الفلسطينية اعتبارها في مرحلة "مريضة"، وفي مرحلة ترامب وتبنّيه الكامل للمشروع وللخطة الصهيونية، وفي مرحلة انحطاط عربي لم يسبق له مثيل منذ سقوط عاصمة الرشيد على يد هولاكو، واستطعنا أن نحافظ على حقوقنا وأهدافنا في كل ظروف الانقسام وبعثرة الأهداف، والعبث أو محاولات العبث بشرعية تمثيل مؤسساتنا الوطنية لشعبنا، وفي حالة حصار معلن، وعقوبات جماعية وتجويع متعمّد.
ومعركتنا اليوم هي معركة الدفاع عن الحقوق والأهداف، ومعركة التمسك بها، وليست معركة الصمود على الأرض إلاّ الوجه المشرّف في هذه المعركة، وليس الصمود السياسي سوى الوجه البطولي فيها، طالما أن عالماً عربياً بأكمله ينهار ويتداعى، وطالما تحولت إسرائيل، أو هي في طريقها للتحول إلى حليف جديد للنظام العربي الرسمي على حساب حقوقنا، وتجاوزاً لها ومحاولة القفز عنها.
وإذا اختار النظام العربي هذا المسار، ورأى أن مصالحه كنظام يقتضي هذا الطريق، وأصبح التحالف مع اليمين الأميركي والصهيوني هو ضالته المنشودة للحفاظ على هذا "النظام"، وبقائه، فليس أمامنا إلاّ نعيه والترحُّم عليه أو عدم الترحُّم عليه بالأحرى.
نحن سنستمر في صمودنا وفي خوض معركة البقاء على أرضنا، وفي الاستماتة بالتمسك بحقوق شعبنا وأهدافه الوطنية، ولن يثنينا عن ذلك كله لا هرولة ولا أي تطبيع، ولن تنال إسرائيل من عزيمتنا أو إرادتنا قيد أُنملة.
وإذا كان النظام العربي اختار التحالف والتطبيع مع إسرائيل "فإلى حيث ألقت"، لكن لا تتذرعوا باتفاقيات أوسلو، أو مدريد أو غيرها، ولا تبحثوا عن ذرائع وحجج لانهياركم، ولا تستخدموا فلسطين وشعبها في مساركم وتوجهاتكم، لأن هذا لن يسعف أحداً، ولن يشفع لأحد وفشل أوسلو وإفشاله هو الدليل القاطع المانع على بؤس رؤاكم وسياساتكم.
المزاودة على الشعب الفلسطيني عَبر بوابة "أوسلو" ليست نظيفة، ولا شريفة، ويُشتمّ منها رائحة نتنة لا تليق إلاّ بأنوف مرّغها تراب الخنوع. مقارناتكم بين "أوسلو" والهرولة التطبيعية ساذجة وغبية ولن تنفعكم أبداً، ولعبتكم مكشوفة ومفضوحة.

نقلا عن صحيفة الايام.