باي باي دي مستورا - هاني عوكل - النجاح الإخباري - يعكس تنحي المبعوث الدولي الخاص إلى سورية، ستيفان دي مستورا، نهاية الشهر المقبل، عمق الأزمة السورية التي يبدو أنها مستعصية على الحل، وسط تدخلات إقليمية ودولية في هذا الملف، ما يشي بتحولات عميقة في شكل النظام الدولي.
دي مستورا الذي عُيّن في هذا المنصب، منتصف شهر تموز 2014، خلفاً لنظيريه: الأخضر الإبراهيمي والراحل كوفي عنان، ذكر أن أسباب تنحيه عن منصبه عائلية، عكس عنان والإبراهيمي الذين تركا هذا المنصب الصعب بسبب الجمود في العملية السياسية.
بصرف النظر عن الأسباب التي دفعته لترك منصبه، إلا أن دي مستورا سبق أن صرح في أكثر من مناسبة بأن الحل في سورية سياسي وليس عسكرياً، ومؤخراً قال: إنه على الرغم من المكاسب التي حققها النظام السوي، فإن الحل السياسي هو الأهم؛ لأن البديل برأيه غياب السلام مع مكاسب عسكرية على الأرض.
دبلوماسي مقتدر مثل دي مستورا يستصعب القول إن العقدة تكمن في المنشار الدولي؛ لأن أي مراقب أو متابع للمشهد السوري يستنتج أن فرقاء النزاع السوري هم أدوات بأيدي دول كبرى مؤثرة بقوة في هذا النزاع، وأي انفراجة حقيقية في العلمية السياسية تستوجب التقريب بين الكبار.
روسيا التي تدعم الرئيس الأسد بقوة، فرضت نفسها على الساحة الدولية في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية بالملف السوري، ولذلك فإن الدعم المتواصل والسخي الذي تقدمه موسكو للنظام السوري لا يستهدف تقوية الأخير بقدر ما أنه يقوي روسيا نفسها ويدفعها إلى سُلّم النظام الدولي في مراتبه العليا.
أما واشنطن التي تدرك أنها لا تزال القوة الأكبر على مستوى العالم؛ ارتباطاً بفائض قوتها العسكرية ونشاطها الاقتصادي وتأثيرها الخارجي، فإنها تتعامل مع الملف السوري على أنه يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل بالدرجة الأولى.
قبل أن تكشف عن إستراتيجيتها الجديدة في سورية، كانت واشنطن مترددة بين ضرورة رحيل الأسد عن السلطة أو التخلي عن هذا المطلب والتركيز على محاربة التنظيم المتطرف "داعش"، غير أن الرئيس دونالد ترامب حسم أمره باتجاه البقاء في سورية إلى أجل غير مسمى.
الإدارة الأميركية أرجأت مسألة سحب قواتها من سورية، خصوصاً من شرق الفرات، حيث تتواجد بقوة هناك؛ لمنع أي تمدد إيراني، وهذا البقاء في سورية يستهدف حسب هذه الإستراتيجية إنهاء الوجود الإيراني وإنهاء أي وجود فصائلي أجنبي مدعوم من قبل طهران.
هذه إستراتيجية واضحة ومفهومة في إطار الجدل المتواصل بين روسيا وإسرائيل من أجل إبعاد إيران عن سورية، ذلك أن موسكو لم تتمكن من إقناع طهران بمسألة الخروج من سورية أو أنها لم تفعل ذلك من الأساس.
الآن تريد الولايات المتحدة الأميركية القيام بهذه المهمة، مدفوعة أيضاً بالرغبة في وجود نظام سياسي مستقبلي في سورية مستقر، لا يشكل أي تهديد لأحد، ويقصد هنا إسرائيل، والأهم نظام ليس لديه مشكلة مع الدول الغربية. ولا يفهم إذا كان نظاماً بالرئيس بشار أو من دونه.
الأجندة الروسية بعيدة عن الأميركية، وكلتاهما لا تتقاطعان بأي حال من الأحوال، خصوصاً أن واشنطن تدعم قوات سورية الديمقراطية التي تكرهها تركيا كره العمى، والتي تسيطر على حوالى 25% من المساحة الإجمالية لسورية شمالاً.
أيضاً ينظر النظام السوري إلى قوات سورية الديمقراطية على أنها غريم قوي؛ إذ رفضت تسليم المناطق التي بحوزتها، غير أن القوات الحكومية السورية غير متحمسة كثيراً لهذا الموضوع؛ في إطار أولوية إنهاء ملف إدلب، الذي يشكل علامة فارقة في محصلة النزاع العسكري.
الملف السوري معقد؛ لأنه محكوم بتوازنات إقليمية ودولية، أما في الميدان العسكري فليس هناك أسهل من حسم النزاع إذا رفعت القوى الدولية يدها عن هذا الملف، ولذلك هي من يمد النزاع بالحطب اللازم حتى يبقى مشتعلاً، ووحدها من يمكنها إطفاء النار وتسوية الملف بالسياسة.
هذا ربما لسان حال دي مستورا بشأن الملف السوري، لكنه بلع الموس ولا يمكنه توجيه الاتهام المباشر إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا؛ بسبب غياب الإرادة ومعها غياب الحل، وبالتالي ربما آثر ترك منصبه والتمسك بكبريائه حتى لا يقال إنه فشل في حل طلاسم المعضلة السورية.
الأزمة السورية لا تحتاج إلى مبعوث دولي خاص بها؛ بدليل أن كل المبعوثين السابقين لم يحققوا شيئاً في هذا الملف، وفقط الشيء الوحيد الذي تمكّن دي مستورا من فعله هو ابتداع فكرة مناطق خفض التصعيد التي سعى إلى تطبيقها ابتداءً من حلب الشمالية.
عدا ذلك، فإن مفتاح الحل يكمن في نسختين: الأولى في جيب واشنطن، والثانية في الجيب الروسي، وغير ذلك فإن الحديث عن الحسم العسكري يقود أوتوماتيكياً إلى حسم سياسي هو أبعد ما يكون عن الواقع؛ لأن النظام السوري اليوم هو الطرف الأقوى في معادلة النزاع، ومع ذلك يبقى حسم الملف سياسياً بعيد المنال.
الآن يغادر المبعوث الدولي الخاص إلى سورية هذا المنصب، ولم يتمكن بعد من حل مسألة اللجنة الدستورية التي طلب منه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إنجازها وحسمها خلال أسابيعه الأخيرة.
الخلاصة في رحيل دي مستورا، أن هذا المنصب شكلاني دون التقليل من قدرات الرجل وسعيه الدؤوب لتحريك العملية السياسية تحت مظلة جنيف وإنهاء هذه الأزمة الصعبة؛ ذلك أن من يريد أن يكون صليباً أحمر للإمساك بالملف السوري وتسويته ينبغي أن يكون قوياً كفاية للتأثير على الأطراف المحلية الأخرى.
هذه الخاصية تملكها واشنطن وموسكو فقط، لكن، حتى هذه اللحظة، ثمة استمراراً في اللعب تحت شعار مرحلة كسر العظم، ولاحقاً سينشط الحراك السياسي لتسوية الملف السوري وسنشهد واحدة من أكبر المساومات لإنهاء هذه الأزمة، بينما يتفرج دي مستورا على طرائق الحل من شاشة منزله، متحسراً على محطة من حياته أراد أن ينجز فيها، لكن غياب الظهر أفقده التأثير ومرونة الحركة. 

[email protected]

نقلا عن الأيام الفلسطينية