المحامي زياد أبو زياد - النجاح الإخباري - الأحد...وكل يوم أحد

غزة... والانحياز إلى الموت حين يتساوى مع الحياة

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

مرة أخرى يُبدع الشعب الفلسطيني قي الابتكار..وما يحدث في غزة هذه الأيام هو نمط جديد من المقاومة يولد من رحم الحصار والضجر والوقوف على حافة اليأس.. فقد ساء الحال إلى حد ساوى فيه الناس بين الحياة والموت...ووصل الحال من السوء لدرجة أن يردد المرء قول الشاعر: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ، وحسب المنايا أن يكن أمانيا.

لقد حذر الكثيرون من قبل وأنا واحد منهم ، من أن الإنفجار في غزة قادم لا محالة وأن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ بموعد وقوعه ، وها هي غزة تتململ تُحرك الفتيل ولا أعتقد بأن ما يحدث الآن هو الإنفجار الذي نتوقعه وإنما هي " بروفات " تحاكي وتختبر كيف يمكن أن يكون شكل الانفجار الكبير القادم...

والمساواة بين الحياة والموت تنحاز في غزة الى جانب اختيار الموت لأن المحنة تفجر في داخل الإنسان إيمانه بالله ولجوءه إليه حين لا يرى ملجأ آخر... واللجوء إلى الله في وقت المحنة يُخرج المرء من دائرة المادة الى الروحانيات...ومن دائرة الخوف من الموت إلى دائرة طلب الموت باعتباره المدخل الى عالم الشهادة، الشهادة التي تمنح المرء كل الحاجات واللذات التي هو محروم منها في هذه الحياة الزائفة.

هذا ما أستنتجه من بعض الحوارات على الهاتف مع أناس من غزة يعانون ضنك الحياة وفقدوا كل هوامش الأمل بالتغيير مهما تواضعوا في طلباتهم وأمنياتهم ومهما كانت أحلامهم صغيرة...أناس فقدوا طعم الماء النقي ولقمة العيش ونسمة الهواء..أناس باتت حياتهم جحيما ً لا يُطاق واقتنعوا أو أقنعوا أنفسهم بأن الشهادة هي الطريق للوصول إلى كل شيء فقدوه في هذه الحياة الدنيا الزائفة.

هؤلاء أناس لم يعد الموت يخيفهم بل أصبح مطلبا ً لهم...

وأتابع كغيري على شاشات التلفاز عشرات الألوف تخرج في " نزهة " الى الحدود مع اسرائيل...الأطفال يبحثون عن المستقبل والعجائز والشيوخ يبحثون عن الماضي... وسمعت عجوزا ً تقول وبكل نقاء وصدق وقناعة...أريد أن أعود الى بلدي...تركنا هناك ستين دونما من الأرض المزروعة بكل أنواع الخيرات فلماذا أخذوها وطردونا منها ولماذا لا نعود إليها...

هذه العجوز مقتنعة بأن الأرض التي طُردت منها ما زالت حسبما تركتها تنتظرها...وهذه المرأة العجوز تتحدث ببساطتها عن أبسط مبادىء العدل الإنساني...أرضي لماذا طردوني منها ولماذا لا أعود إليها...هذا المنطق العفوي الإنساني البسيط لا يفقه بالسياسة ولا بالمفاوضات ولا بالتسويات ولا بالتنظيمات وإنما بشيء واحد : أرضي لماذا أنا هنا ولماذا لا أعود إليها...ولماذا هذا الظلم...

هذا الجيل...جيل النكبة... ومن رحم الحرمان والقهر والظلم ومن خلال إثارة الوعي والإدراك بالحق والإستنارة بالقيم الإنسانية يورث القضية لجيل جديد تتساوى عنده الحياة والموت ويريد هو الآخر أن يرى نهاية للظلم المتمثل في الوضع الراهن الذي يخيم على ضفاف الذل والإهانة والعوز والحاجة .

هذا الجيل الجديد ، الذي تتساوى عنده الحياة والموت ، والذي تشكل الشهادة بالنسبة له خلاصا ً من حياة الهوان ، يُدرك هو الآخر بأنه إن لم يفز بالشهادة فهو فائز بالعودة ، وهو الآخر وبنفس عفوية تلك العجوز لا يستطيع أن يفهم لماذا يعيش في الظلام ولماذا تختلط مياه الشرب عنده بمياه المجاري ، ولماذا تغير طعم الخضراوات الغارقة في مياه المجاري ، ولماذا أصبح للهواء والماء طعم ورائحة مع أن كل الكتب التي تعلمها في المدارس منذ الصفوف الإبتدائية كانت ولا تزال تقول له أن الماء والهواء لا طعم ولا رائحة لها إلا إذا كانت ملوثة..

القطاع يبتكر وسيلة جديدة للتعبير والتغيير....الإطارات المشتعلة وإقامة الخيام على الحدود في الطريق إلى العودة للوطن....وإن كانت هذه الوسيلة ما زالت في طور الإختبار فهي أيضا ً في طور التطوير بمعنى أن ما تراه اليوم ليس نهاية بل بداية...والطفل الذي ابتكر بذكاء فطري كمامة صنعها في البيت محشوة بالبصل لتمتص الغاز الخانق قبل أن يتسرب إلى رئتيه هو نموذج لإبداعات هذا الشعب...

وفي هذه الجواء...أجواء غزة التي تنبعث من جديد...تولد من جديد...تخرج من تحت ظلال اليأس إلى الفسيح المغطى بدخان الإطارات المشتعلة ، يخرج علينا المسؤولون الأمريكيون ليتجاهلوا أعمال القتل ضد الفلسطينيين العُزل من السلاح والتي بلغ ضحاياها حتى الآن عشرات الشهداء وآلاف الجرحى ويحذرونهم من الإقتراب من الحدود مع إسرائيل متجاهلين جوهر ولب الصراع بين شعب تحت الإحتلال واحتلال غاشم جاثم على صدره ، ويخرج علينا في نفس الوقت العسكريون الإسرائيليون ليهددوا بأنهم سيطلقون النار على كل من يقترب من الجدار وكأن المشكلة هي نزاع على بضع مئات من الأمتار هي الفاصل بين هذه الجماهير وهذا الجدار الذي لم يعد قائما في وعي تلك الجماهير المحتشدة بقدر ما هو قائم في وعي من أقاموه وتمترسوا حوله ..." وظنّوا أنهم مانعتُهم حصونُهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب " ، وينسى هؤلاء أو يتناسون بأن المشكلة أكبر وأعمق وأنهم كلما ازدادوا عنجهية وتجاهلا ً للحق الفلسطيني كلما أصبح الصراع أعمق وكلما كان الثمن الذي سيدفعونه أكبر وأكثر.

لقد أثبت قرن من الصراع بأن الشعب الفلسطيني لن يندثر بل على العكس تماما ً يتجدد ويتجذر وأنه لن يكون هناك سلام أو استقرار على هذه الرقعة من العالم طالما ظل هذا الشعب مظلوما ومحروما من حقوقه.