حنان باكير - النجاح الإخباري - ارتبط سؤال الهوية، ولعقود طويلة، في الذهن الشعبي، بالإنسان الفلسطيني، وبهويته التي اعتبرها البعض هوية "افتراضية"، غير معترف بها، الا في حالة القمع وممارسة العنف الممنهج ضد حامليها. فالهوية تفترض وجود أرض تمثلها، وتكون رمز انتماء لها. وأن فقدان الأرض وبالتالي الهوية، هو إنزال لمرتبتك الاجتماعية، واعتبارك طارئا على الوجود البشري.

فالمكان هو الهوية والانتماء. المهاجرون الاوائل، الى بلاد الغرب، لم تشغلهم الهوية، بقدر انشغالهم بالحنين والاشتياق لأوطانهم الأم والرثاء لأحوالها، وهذا ما لاحظناه في شعر وادب المهجر، الذي لم يتطرق، أيضا الى اشكالية الإندماج، التي تحولت اليوم، الى "متلازمة"، لدى المهاجرين والسكان الأصليين على حد سواء.

ومع تغير الظروف، دخل عنصر الدين بقوة الى ساحة الصراع بين الثقافات. وفي ظل الصراعات على امتداد خارطة الوطن العربي، وتدفق اللاجئين بالملايين على الغرب، وظهور الحركات الإسلاموية المشبوهة، وإثارة النعرات الطائفية، شهدت المنافي الجديدة، حركة تشدد ديني تفوق، ما نشهده في البلاد العربية.

وتم ربط الهوية بالدين، وليس بالانتماء الوطني. وكان من مظاهره، التشدد في التوجيه والتربية الدينية للأطفال في البيوت، بما يتناقض مع ما يعايشونه في المدارس والبيئات الجديدة.

فالجيل الثاني من المهاجرين، يعاني من ازدواجية المعايير في التربية. ما يخلق حالة من الانفصام في الانتماء الثقافي. وتلعب الروابط الدينية، دورا متشددا في التعليم الديني، أدى الى تأجيج حمى النقاشات والحوارات التي محورها الهوية والانتماء.

كتب صحفي عربي، في أحد المواقع مقالا باللغة الانكليزية، طالب فيها، النرويجيين الاحتشام في اللباس والسلوك، مراعاة لثقافة المهاجرين.. لكن ردة الفعل القاسية التي واجهها من القراء، دفعته لحذفه.

غريب ومضحك حدّ البكاء، مثل هذا التفكير الصادر عن شخص يفترض أنه مثقف عاش في الغرب لسنوات طويلة. يريد فرض ثقافته على المجتمع الذي لجأ اليه، فأطعمه من جوع وآمنه من خوف، وهو الطارئ على أصحاب هذا المكان! ولو عكسنا السؤال: لماذا لا يحترم هو، أي الصحفي او المهاجر، المجتمع المتحضر، ويتماشى مع ثقافته، بعد أن فرض وجوده عليه، وبكل وسائل الاحتيال؟! في أحد المنتجعات السياحية قبل أسبوع، التقيت مجموعة أطفال عرب.

عرب السحنة والمظهر، وبألوان جلودهم الداكنة جدا. كانوا يتكلمون اللغة الانجليزية بطلاقة ولكنة متقنة. وحين سؤالي لهم عن موطنهم قالوا من "إنغلاند"، أي انجلترا. قلت لهم، لكنكم تتقنون العربية بشكل جيد. أجاب أحدهم: فقط تعلمنا اللغة. ومن أين أصولكم؟ كانت إجاباتهم: من لندن، من بريطانيا، أنا انكليزي.. قلت إنهم أطفال، وربما ولدوا في ذلك البلد.

وفي حوض السباحة مجموعة نسوة عربيات داكنات اللون، تحدثن إليّ باللغة الانجليزية، أجبتهم باللغة العربية، وبدأنا الحديث بلغتنا المشتركة. سألتهن إن كن من سكان المنطقة. أجابت إحداهن وبشيء من الاستنكار: لا نحن من سكان لندن، وجئنا هنا للسياحة فقط.. عرّفت عن نفسي بأني فلسطينية.. لكنهن لم يبحن بأصولهن العربية! لم يزعجني الأمر، بل أحزنني.

فهل بتنا نخشى البوح بانتمائنا، في ظل فوضى الهويات والانتماءات والتعميمات الخاطئة لأصحاب ديانات وهويات معينة! يوم اختارت خطواتي المنفى البعيد، فكرت في نفسي: وما الضير في ذلك، ما دمت خارج وطني المضيّع، فكل المنافي سيّان عندي. فاندمجت في المجتمع، وكان لي فيه صولات وجولات، مع شعوري بالمواطنة التي لم أعرفها منذ لحظة ولادتي.

قال لي شاعر نرويجي، في أوسلو، ذات مرة: أنت طفلة يسكنها مقاتل. وفي بيروت، قال لي الأميركي "جيم": أنت تبدين مقاتلة لكنك طفلة في داخلك.. لم تستوقفني تلك التسميات والرؤى. ويوم تشاركنا في نشاط ثقافي في بيروت مع الشاعر النرويجي قال لي: أنت هنا لا تشبهين نفسك في أوسلو.. أنت هنا تكونين أكثر على سجيتك واسترسالاتك.. أدركت حينها ما تنطوي عليه تلك الرؤى من وجع الإغتراب، دون دراية مني!