طلال عوكل - النجاح الإخباري - حتى لو اجتهدت إسرائيل، في الادعاء بانتصار موهوم، وجنّدت من أجل ذلك جوقة من الكتّاب والصحافيين، والجنرالات والباحثين والأمنيين فإنها لا يمكن أن يغير ذلك من صورتها القبيحة. المؤسف أن ثمة من يدّعون الوطنية، يحاولون التقليل من قيمة وأبعاد الانتصار الذي تحقق خلال الجولة الأخيرة من العدوان، وذلك لأسباب ودوافع وحسابات شخصية أو فئوية أو تنظيمية، لكن الحقائق لا يحجبها الغربال.
التحول الذي وقع اثر هذا الانصتار، ينطوي على أبعاد استراتيجية مهمة في سياق خوض الصراع تستدعي من الفلسطينيين سلوكاً مختلفاً للمراكمة عليه. لن تهدأ التفاعلات السياسية والإعلامية والحقوقية مع نتائج وتداعيات هذا الحدث الضخم، والذي حرّك مياهاً كثيرة، راكدة على مختلف المستويات الإقليمية والدولية.
ما فعلته المقاومة في غزة، والضفة والقدس مهم للغاية، ولكن الأهم والجوهري يمكن ملاحظته في ثلاث ظواهر أساسية:
أولها، ان القدس قد اصبحت المفجر الذي يمكن ان يحرك الشعوب والانظمة والقوى السياسية على امتداد العالمين العربي والاسلامي ابتداءً ثم على الصعيد الدولي. إذا كان علينا أن نسجل بأن القدس، بما في ذلك سياسة التطهير العرقي، بنموذجها الراهن الشيخ جرّاح وبطن الهوى في سلوان، وكلاهما من القدس، قد أصبحت جزءاً من الخطاب الرسمي الأميركي والأوروبي، الذي ينطوي على تحذيرات متكررة لإسرائيل، فإنها أي القدس، قد أصبحت ظاهرة معيارية لسياسات الدول والقى.
فليصدق من يرغب أولا يصدق، المعادلة التي طرها سيد المقاومة اللبنانية الذي قال ان القدس قضية معيارية بالنسبة للمقاوم، وان استمرار السياسة الاسرائيلية ازاءها ستتسبب في حرب اقليمية.
الموقف الدولي من مسألة القدس والشيخ جرّاح، يبدو عمليا آثار القرار الذي اتخذه ترامب وصدقته اسرائيل، ويعيدها الى كونها جزءاً من الاراضي المحتلة عام 1967، الخاضعة للتفاوض.
ثاني هذه الظواهر ان ما جرى ويجري على ساحة الحي الصغير في القدس، قد شكل مفجرا لقضية الاقلية العربية في اسرائيل التي تعاني من سياسة اسرائيلية تطهيرية، تنطوي على سياسة تمييز عنصري، فاضحة فلقد كان آخر نموذج لهذه السياسة قبل بقليل قضية الشيخ جرّاح، ما عاناه ويعانيه العرب أهل البلاد في مدينة يافا. لقد صرخ الفلسطينيون في يافا وقاموا بمسيرات احتجاجية، ولجؤوا إلى القضاء، وتعرضوا ولا يزالوا يتعرضون لهجمات المستوطنين، ومحاولات سرقة بيوتهم وأملاكهم وأراضيهم، لكن كل ما فعلوه، لم يجد ردود الفعل الفلسطينية وغير الفلسطينية التي يمكن ان تساند نضالاتهم.
يقول المحامي حسن جبارين مدير مؤسسة عدالة لحقوق الإنسان في الداخل الفلسطيني، أنه كان من المحذور قبل عشر سنوات، على أي ناشط ان يطلق على السياسة الاسرائيلية، بأنها سياسة «ابارتهايد» وكأن من يفعل ذلك كمن يرتكب جريمة، ولكن اليوم ثمة قبول اسرائيلي بهذا التوصيف. في الواقع فإن ممارسة سياسة التطهير العرقي والتمييز من قبل حكومات اسرائيل، والمجتمع اليهودي، سابقة زمنياً على قرار الكنيست المعروف بقانون القومية، لكن غباء السياسة الاسرائيلية اراد ان يشرع ذلك بقانون. والحقيقة ان اسرائيل لا ستطيع ان تكون غيرها كدولة عنصرية ارهابية توسعية، واداة استعمارية سواء اقرت ذلك او انكرت والمشكلة التي ينبغي ان تخجل منها الدول الداعمة لإسرائيل والمطبّعة معها، أنهم يواصلون دعمها والتستر على سياساتها.
لعل اهم نتائج وتداعيات العدوانات الاسرائيلية الاخيرة على القدس والشيخ جرّاح وغزة، هوان اسرائيل فتحت على نفسها ابواب جهنم حيث كرست امام العالم، نفسها كدولة «ابارتهايد»، على مستوى دولي، وإمعاناً في تجاهل اهمية هذه الحقيقة، كثفت من ممارساتها العنصرية والتطهيرية للعرب في المدن المختلطة، بما قد يؤسس لحرب أهلية.
أستاذ الدراسات المستقبلية البروفيسور ديفيد باسيج من جامعة بار ايلان يتوقع ان تشهد بلاده حرباً أهلية وحالات من الاغتيال السياسي للزعماء وهجرة معاكسة. باسيج يتوقع ان يحدث ذلك خلال مدى زمني قريب ويرسم صورة خطيرة لما قد يجري خلال الاحتفال بأحد الأعياد اليهودية مما سيؤدي إلى وقوع حوادث عنميفة بين اليهود، وان اسرائيل ستشهد حالة من التفكك والانهيار بعد ثلاثة أجيال.
ان اهمية قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، هو في انه يشكل لجنة تحقيق مفتوحة ودائمة، وبأن يشمل كل ارض فلسطين التاريخية، وبأنه سيبحث في الجذور التي تتصل بسياسة التمييز التي تمارسها اسرائيل على مدار وجودها.
ان دائرة وصف اسرائيل بدولة «ابارتهايد» تتسع لدى اوساط مهمة في المجتمع الدولي، الأمر الذي أثار غضب نتنياهو من تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، الذي قال انه اذا لم تتحقق رؤية الدولتين فإن اسرائيل ستصبح دولة «ابارتهايد».
ثالث هذه الظواهر، تتصل بتغير المناخ الدولي إزاء السياسات الاسرائيلية الممعنة في عنصريتها، وعنجهيتها، فلقد طفح الكيل، وإلّا لماذا لم ينهض المجتمع الدولي ابان العدوانات الاسرائيلية الثلاثة السابقة، رغم ان الدمار كان هائلاً، واعداد الضحايا بما في ذلك من الاطفال والمدنيين، كان بعشرات الآلاف؟ بغض النظر عن أهمية الوسائل التي استظهرت بشاعة العدوان بكل تفاصيلها على امداد مساحة فلسطين التاريخية، فإن الشعوب بدأت تصحو على حقيقة الإجرام الصهيوني، وعلى حقيقة ان هذه الارض هي مفتاح الحرب والسلام الأمر الذي تغافل عنه ولم يصدقه بعض العرب الذين خدعتهم مظاهر القوة الاسرائيلية. المظاهرات والاحتجاجات، لم تتوقف في كل انحاء العالم بما في ذلك في الولايات المتحدة، الأمر الذي يؤشر الى مدى اتساع وعمق وعي المجتمعات، خصوصاً الغربية إزاء طبيعة وجوهر الصراع في هذه المنطقة.
آلاف الفنانين، والأطباء، والأكاديميين، والعمال والنقابات، أخذت تضغط على حكوماتها، وتطالب على نحو غير مسبوق لمقاطعة ومعاقبة دولة «الابارتهايد»، التي لن تسقط مرة واحدة، ومن المحذور أن تشعر بالراحة لحظة.

 

نقلا عن الأيام