حسن نافعة - النجاح الإخباري - لم تكن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية بمثل الوضوح الذي هي عليه الآن. غير أن الوضوح لا يعني بالضرورة أننا إزاء سياسة مدروسة، ذلك أن الفحص المدقق لركائزها يكشف عن ثغرات وتناقضات كثيرة تجعل من إدارتها بطريقة رشيدة مسألة شبه مستحيلة. ولإدراك الأبعاد المختلفة لسياسة ترامب الخارجية ينبغي التمييز بين ترامب «الظاهرة» وترامب «الشخص».

للظاهرة «الترامبية» جذور تمتد باتساع العالم الغربي كله، وليس فقط داخل الولايات المتحدة، وتعكس مظاهر قلق يجسده ويعبر عنه يمين عنصري متطرف. أما ترامب «الشخص» فتركيبة بشرية معقدة، تعكس السمات النفسية والذهنية لتاجر مقامر أمضى معظم حياته قريباً من أجواء الأسواق والصفقات وكازينوات القمار ومسابقات ملكات الجمال وتجارة النساء. وإذا كانت الظاهرة الترامبية قد أفرزت في طبعتها الأميركية رئيس دولة ديماغوجياً لديه قدرة على دغدغة المشاعر المحبطة من العولمة والساخطة على المؤسسات الرسمية وتوحيدها حول شعار «أميركا أولاً»، فإن «الشخصية الترامبية» أفرزت لنا رجلاً متقلب المزاج يكذب كما يتنفس ولا يثبُت على حال أو مبدأ ويصعب توقع تصرفاته.

تلاقح الظاهرة بالجينات الترامبية أفرز لنا على صعيد السياسة الخارجية الأميركية رؤية تختلف تماماً عما شهدناه من قبل، تنطلق من قناعة مفادها أن مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي تآكلت في السنوات الأخيرة ومرشحة للتآكل بمعدلات أسرع إذا استمرت السياسة الخارجية تدار بالأساليب التقليدية ذاتها التي قامت على «تدليل الحلفاء»، من ناحية، وشيطنة الخصوم، من ناحية أخرى، ومن ثم باتت مكلفة جداً. من هنا إصرار ترامب ليس فقط على إعادة النظر في مجمل توجهاتها التقليدية وإنما أيضاً على تغيير قواعد اللعبة التي يتعين أن تستند منذ الآن فصاعداً إلى معيار واحد يجسده شعار «أميركا أولاً» سواء تعلق الأمر بإدارة العلاقة مع الحلفاء أو مع الأعداء أو مع الدول «المارقة».

العلاقة مع «الحلفاء التقليديين»، كالدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، شهدت منعطفات حادة منذ بداية عهد ترامب، وتبدو الآن وكأن زلزالاً ضربها أدى إلى انتقال الولايات المتحدة من موقع القيادة، الراعي والحامي والمانح، إلى موقع المتذمر، الشاكي أو المتباكي. إذ يفهم من التصريحات التي صدرت عن ترامب حتى الآن أن الـ «ناتو» أصبح عالة وعبئاً على الولايات المتحدة، وهي تصريحات تعكس كراهية شديدة للاتحاد الأوروبي وتعتبره تكتلاً معادياً. فلم يتردد ترامب في اتهام ألمانيا بأنها أصبحت دولة تابعة أو حتى عميلة لروسيا، وراح يحرض بريطانيا على القطيعة الكاملة مع الاتحاد الأوروبي وانتقد رئيسة الوزراء الحالية لعدم صلابة موقفها ولأنها لا تكره الاتحاد الأوروبي بما فيه الكفاية، ولم يخف انحيازه إلى جانب وزير خارجيتها المستقيل وتمنى أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا القادم. كما يلاحظ، على صعيد آخر، أن علاقة الولايات المتحدة بجارتيها الكبيرتين كندا والمكسيك لم تنج بدورها من العواصف. فقد أصر ترامب على إقامة جدار عازل مع المكسيك ويواصل إشعال فتيل حرب تجارية مع كليهما.

أما العلاقة مع «الأعداء التقليديين» كروسيا والصين، فتشهد بدورها بداية تحولات لا تقل خطورة. فترامب يرى في روسيا الاتحادية منافساً يمكن التعايش معه على أساس تبادل المنافع، وليس عدواً يتعين العمل على استئصاله أو إلحاق الهزيمة به كما تعتقد مؤسسات الدولة الأميركية العميقة. ولم يعد يشعر بالقلق أو الانزعاج من تنامي النزعة القومية لدى بوتين ويرى فيها أمراً طبيعياً يستحق الإعجاب. ما يثير حيرة المراقبين حقاً عدم شعور ترامب بالخوف أو حتى بالهلع من ضخامة ترسانة روسيا النووية ومن إصرار بوتين على المضي قدماً في تطوير هذه الترسانة الرهيبة، إذ يرى ترامب أن السلاح النووي هو سلاح للردع وليس للاستخدام، وربما يعتقد أنه لا بأس من توظيفه لابتزاز دول الاتحاد الأوروبي والضغط عليها لتخصص نسبة أكبر من موازناتها للدفاع. لذا يتصرف ترامب وكأنه واثق تماماً أن روسيا لا تريد ولن تستطيع إطلاق سباق جديد للتسلح مع الولايات المتحدة. قد يشعر ترامب ببعض القلق من إصرار روسيا على استعادة نفوذها لدى دول كانت حتى وقت قريب تعد جزءاً من الاتحاد السوفياتي سابقاً، غير أنه يبدو مع ذلك على استعداد لتبني مواقف تتسم بقدر من المرونة أكبر مما قد تسمح به مؤسسات الدولة الأميركية العميقة.

سبب هذا التحول الكبير في السياسة الأميركية تجاه روسيا ليس ديناً في رقبة ترامب عليه أن يسدده لروسيا التي ساعدته على الفوز في انتخابات 2016، كما يعتقد البعض، لكنه تحول يتسق تماماً، في تقديري، مع رؤية ترامب وفهمه شعار «أميركا أولاً».

ما يزعج ترامب حقاً ليس روسيا وإنما الصين التي تنامت قوتها الاقتصادية في شكل هائل وأصبحت منتجاتها المتنوعة تزاحم المنتجات الأميركية في كل مكان على سطح الكوكب، بما في ذلك الداخل الأميركي نفسه، الأمر الذي يؤثر مباشرة في قاعدته الانتخابية ويدفعه للتصميم على مواجهة التحدي الصيني، وهو ما تجلى بوضوح في معركة الرسوم الجمركية التي لم تحسم نهائياً بعد. غير أن ترامب يدرك في الوقت نفسه حدود التصعيد الذي لن يستطيع أن يتمادى فيه إلى الحد الذي قد يؤدي إلى اندلاع حرب تجارية شاملة بين البلدين. فالصين تتعامل مع الولايات المتحدة من موقع الندية الكاملة بل من موقف قوة فعلية وتستطيع أن تلحق بالاقتصاد الأميركي والدولار أذى كبيراً وحقيقياً، ولا ينبغي أن ننسى أن الصين تستثمر في أذون الخزانة الأميركية ما يزيد على 700 بليون دولار.

بقي أن نشير إلى موقف ترامب من دول كانت السياسة الخارجية الأميركية قد اعتادت أن تسميها «عاصية» أو «محور الشر»، مثل كوريا الشمالية وإيران. فما زال ترامب، على صعيد الخطاب الرسمي على الأقل، يستخدم التعبير ذاته، محاولاً الإيحاء بأن سياسته تجاه هذا المحور بالذات تزداد تشدداً وتنطلق من حرصه على منع انتشار الأسلحة النووية إلى دول تقودها من وجهة نظره نظم شمولية عقائدية، كنظام ولاية الفقيه في إيران والنظام الماركسي في كوريا الشمالية. غير أن المتأمل لحقيقة السياسة التي ينتهجها ترامب على هذا الصعيد سرعان ما يدرك الفارق الكبير بين طريقة تعامله مع كل من كوريا الشمالية وإيران. فعقب إجراء كوريا الشمالية سلسلة تجارب نووية وصاروخية، أكدت امتلاكها أسلحة نووية ووسائل قادرة على حملها حتى إلى الأراضي الأميركية نفسها، لم يتردد ترامب في التعامل مع زعيم كوريا الشمالية بأقصى قدر من الخشونة وراح يدفع بالأمور نحو حافة هاوية خيل للبعض وقتها أنه على وشك توجيه ضربة عسكرية قاصمة للنظام الكوري. فجأة، وكما سبق أن توقعت تماماً، تراجع ترامب والتقى بالزعيم الكوري الذي سبق أن نعته بأقسى العبارات وبدأت عملية تفاوض من موقع الند للند.

أما مع إيران فالوضع مختلف تماماً، لسبب أوحد وهو العامل الإسرائيلي الغائب في الحالة الكورية. فإقدام ترامب على إلغاء اتفاق البرنامج النووي مع إيران لا يعود إلى ما تمثله الأخيرة من تهديد مباشر للمصالح الأميركية، لأنه لن يكون في جميع الأحوال بحجم التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية التي تملك بالفعل ترسانة نووية علماً أنه قادر في جميع الأحوال على حماية هذه المصالح، ولا إلى ما تمثله إيران من تهديد مصالح حلفائها العرب، لأن الولايات المتحدة لم تعبأ بهذه المصالح من قبل، وسبق لها مساعدة إيران بشكل غير مباشر على التمدد في العراق، وتستطيع في كل الأوقات حماية مصالحها مع أي نظم عربية حاكمة حالياً أو في المستقبل. السبب الحقيقي لإلغاء ترامب الاتفاق النووي مع إيران هو إسرائيل، لأن إلغاءه يحقق مصلحة أميركية وإسرائيلية مزدوجة. فهو يسمح للولايات المتحدة بابتزاز وامتصاص ثروات دول الخليج العربية التي ترى في إيران تهديداً أكبر، ويتيح لإسرائيل في الوقت نفسه فرصة ذهبية لتطبيع فوري للعلاقة مع دول الخليج العربي، بدعوى مواجهة الخطر الإيراني المشترك، وبالتالي يساعدها على الشروع في تصفية القضية الفلسطينية نهائياً.

لو كان ترامب يرغب حقاً في مواجهة مع إيران، مدعوماً بعمق عربي وإسرائيلي، لألقى بثقله للتوصل أولاً إلى تسوية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين ثم التفرغ بعد ذلك لمواجهة مشتركة مع إيران. غير أن قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، شجع إسرائيل على إصدار قانون القومية الذي يتنكر للحقوق العربية في فلسطين، في تواطؤ أميركي إسرائيلي واضح لتصفية القضية الفلسطينية. ولهذا السبب تحديداً فإن الصيغة الترامبية للسياسة الخارجية الأميركية في طبعتها الجديدة أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح لأنها تتمحور في حقيقة أمرها حول شعار «إسرائيل أولاً» وليس أميركا.

* كاتب مصري

عن الحياة اللندنية