حنان باكير - النجاح الإخباري - أدب ما بعد الحرب اللبنانية، بدأ يأخذ منحى جديدا، بالاشتغال على العلاقات الشائكة بين الشعب اللبناني بكافة طوائفه، والعلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين. رواية " ليالي دير القمر" لزياد كنج، تعرض علاقة المسيحيين والدروز. وفيلم " القضية رقم 23" تصور العلاقة الملتبسة بين اللبنانيين والفلسطينيين، للمخرج اللبناني زياد الدويري.. قرأت وسمعت الكثير عن الفيلم وصاحبه، تعليقات تُروى وتعارض الفيلم، مستندة على السمع والتعليقات العشوائية. ولا أخفي فضولي، لرؤية صورة الفلسطيني في هذا الفيلم.

باختصار شديد، تدور أحداث الفيلم في منطقة فسوح "المسيحية"، وبين أحد المخيمات الفلسطينية، وقاعة المحكمة. حادثة بسيطة، كان يمكنها أن تمر بلا تعقيد، لولا تدخل عاملين، الأول ماضي الشخصيتين الرئيستين، والثاني، تبني جهات ذات نفوذ للقضية، خدمة لمآرب معينة.

تتعهد شركة مقاولة إعادة اعمار منطقة فسوح، بعد انتهاء الحرب. يحدث اشكال بين أحد سكان المنطقة  "طوني"، الدائم الاستماع الى خطابات بشير الجميل، والتي تهاجم الفلسطينيين، وبين ياسر الفلسطيني المسؤول عن العمال. طوني يملك مرآبا لتصليح السيارات، وياسر يعمل سنكريا. فكلاهما ينتميان الى طبقة اجتماعية واحدة. وبينما كان طوني يسقي زرعه على البلكونة، تنزل المياه على ياسر والعمال، يتلاسن الاثنان، يدرك طوني من لهجة ياسر أنه فلسطيني، فيوجه له إهانة تمس مشاعره الوطنية، يرد ياسر بإهانة شخصية! ولاحقا يقوم طوني وبلحظة انفعال بكسر، مزراب بلكونه الحديث، نكاية بالفلسطيني.

تكبر القضية وتصل الى المحاكم. قضية كسر مزراب بلكونة، تصبح قضية كبيرة في المحاكم، وتخرج عن ارادة المدّعي والمدّعى عليه، بسبب تبني أحد المحامين الكبار، لقضية طوني، التي لم تعد قضية شخصية. وتتطوع محامية شابة للدفاع عن الفلسطيني، الذي لم يُرد للقضية أن تأخذ أكثر من بعدها الفردي، وبدوره يتعرض طوني، لضغوط من زوجته الحامل بطفلتهما الأولى. ويحاول التخلي عن القضية، لكن محاميه المشهور، وحامل فكر معين، يحبط تلك المحاولات. المحامية الصبية، تدافع عن ياسر الفلسطيني، حامل إرث من المعاناة والتشرد، إضافة الى عدم تعرضه لمشاعر طوني الوطنية، كما فعل خصمه.. : مش شي غريب إنو صيتكم وسخ" أو تمنيه لو أن شارون ما خلاّ حدن منكن!

ومن خلال جلسات المحاكمة، تدور معظم أحداث الفيلم. وتكشف الخلفيات التاريخية والطائفية والأيديولوجية لكلا الطرفين. المحامي الذي شهد الحرب، يكشف تاريخ موكله طوني، الذي نكتشف أنه من بلدة الدامور، التي تعرضت لأحداث دامية، وكيف فقد عائلته، وهروبه في شاحنة صغيرة لنقل الموز. ذكريات ما زالت تحفر في نفسه، وتغذيها خطابات بشير الجميل. الفيلم لا يبرر مجازر صبرا وشاتيلا، وسائر الاحداث الدامية، فقد أورد على لسان المحامي " بأنه لا يحق لأحد أن يحتكر الألم".. فالكل هنا ضحية، وله معاناته ودرب جلجلته. بقي أن نعرف بأن المحامية الصبية هي ابنة المحامي، والذي كانت لهما مواقف ومواجهة حازمة وصارمة، إزاء الموكلين بخلفيتهما التاريخية.

ثلاثة أجيال، تقاسمت بطولة الفيلم. الجيل الأول والمتمثل بالمحامي، وياسر وطوني. وقد خبروا الحرب واكتووا بنارها، وحملوا آثارها في أفئدتهم. والجيل الثاني، المتمثل بزوجة طوني والمحامية، جيل لم يشهد الحرب، ولم يرث الحقد والكراهية، التي تسببت الحرب في زرعها في النفوس. والجيل الثالث والذي لم تتضح بعد الصورة التي سيكون على شاكلتها، فيتمثل بطفلة طوني، التي ولدت قبل أوانها بسبب حادث، وتقبع في حاضنة اطفال في المستشفى، وتحصل على أوكسجين، يساعدها على التنفس!

الفيلم مشغول بحرفية وموضوعية، ويوصل رسالة أن المحبة في طبع الناس، ما لم يتم استغلال  عذاباتهم ..وتمثلت في رغبة ياسر بالاعتذار لطوني، وبدوره قيام طوني بإصلاح عطل في سيارة ياسر. وأن قضية بسيطة أو " سخيفة"، لو لم تستغلها جهات معنية، لما أخذت كل تلك الأبعاد. النهاية تنحاز قليلا لصالح الفلسطيني، بكسبه للقضية، لكن شبه الابتسامة الرقيقة والمتبادلة بين الخصمين، في آخر مشهد، تشي بأن المحبة هي الرابحة!

الفلسطيني ياسر، وربما كان هناك رمزية في اختيار الاسم، فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان فنيسيا.