وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - هذا من أكثر اتفاقات التاريخ غرابة بل أغربها على الإطلاق؛ فقد قتل أبطاله وأخذ السيناريو لمساحة بعيدة جداً عن المخرج والراوي وكاتب النص. ثلاثة عقود مرت على «أوسلو» ولا يزال النقاش حاداً بين الأقطاب من الطرفين لإثبات صوابية السياسة، قتل ياسر عرفات وإسحق رابين، وأطاح بحركة «فتح»، وأسدل الستار على حزب العمل، هو الاتفاق الذي استفاد منه معارضوه فقط وسلّمهم ما يكفي من عوامل القوة لإنهاء تلك المحاولة التي حكم عليها الواقع بالإعدام.
هل كان «أوسلو» خطأً أم صواباً؟ هذا الجدل الذي لم ولن ينتهي فلسطينياً لإثبات جدارة القيادة من الصعب الإجابة بالرياضيات عن معمل التاريخ الإنساني بتجاربه الكيميائية وتداخل عناصرها، هناك مدرستان لتقييم التجربة، الأولى الكلاسيكية التي تقيس واقع اللحظة، والثانية الإبيقورية التي لا تستعجل التقييم بل تنتظر النتائج لإصدار حكمها. ومن الصعب تقييم تجربة كانت وليدة ظرفها ومناخاتها السياسية والنفسية، لكن الاتفاق في اللحظة التي تم فيها كان واضحاً أنه ليس ابن تلك اللحظة، ربما كان تقدم..! أو تأخر..!
لقد جاء الاتفاق ليعكس حكم التاريخ على الصراع الذي كان قد دار بين قوميتين على نفس الأرض. فالإسرائيلي تسلح بقوة عسكرية هائلة وإسناد دولي من قوى عظمى، وتسلح الفلسطيني بفائض ما يملكه من إرادة وعناد، لم يستطع الإسرائيلي الذي أخرج الفلسطيني من الجغرافيا أن يخرجه من التاريخ رغم كل محاولاته العاتية. بقي الفلسطيني حياً ومدافعاً وحاضراً في أحلامه حتى، وبالمقابل لم يستطع الفلسطيني هزيمة الإسرائيلي عسكرياً وإخراجه من الأرض.
وهنا كان للتاريخ أن يقول كلمته بتقاسم الأرض، بما تمكنت موازين القوى من تحقيقه كمعادلات جسدتها المعارك الممتدة في فلسطين وخارجها، ووسط محيط عربي كان يعجز عن صناعة ممكنات القوة. كانت موازين القوى العسكرية والدولية تجنح لصالح الإسرائيلي، وكان الاتفاق يعكس تلك الموازين على الأرض.
لكن ما كان كامناً تحت رماد الصراع كان أكبر من أن تتم السيطرة عليه، كأنه أحدث رجة الإفاقة لثقافة خفية لدى الشعب الإسرائيلي ليستنفر المعارضة التوراتية ويضخ في عروقها دماء جديدة. كانت غيؤولا كوهين عضو الكنيست، وهي والدة تساحي هنغبي رئيس مجلس الأمن القومي، تتمدد متشحة بالسواد باكية أمام مبنى الكنيست يوم توقيع الاتفاق، وتتعهد بإسقاطه.. وقد كان. أما الفلسطيني فقد صدمته تجربة الخداع الإسرائيلي لينقلب بعد ذلك.
ذهب الطرفان بنوايا لا علاقة لها بالاتفاق، فالنصوص كانت ملغمة والنوايا كانت حقولاً لتلك الألغام.. ذهب الفلسطيني مدججاً بالأحلام، فيما ذهب الإسرائيلي مدججاً بسوء النوايا. وما بين فائض الحلم وفائض الدهاء كان لا بد أن ينتهي حوار الطرشان هذا بالتعارك من جديد. وقد كانت الانتفاضة الثانية تعبيراً عن واقع النوايا، حين وصل الطرفان لنهاية الاتفاق المسقوف بخمس سنوات إلى فشل كبير، حاول كل منهما أن يعود للميدان علّه يستدعي ما يذخر به أسلحته التفاوضية، حاول عرفات أن يضغط بالسلاح لتحقيق حل تملص منه الإسرائيلي في كامب ديفيد، بعد أن أغرته سنوات من الهدوء الأمني، وهو أقصى ما يريده، فلماذا يذهب أبعد ويقدم تنازلاً أكثر، وحاول باراك «الذي عارض أوسلو» أن يكسر إرادة عرفات بالجيش المجهز لخوض معارك مع عدة دول ليقبل بشروط إدامة الاحتلال لينكسر كلاهما لصالح المعارضة.
كانت القومية اليهودية التي تستمد ثقافتها من التوراة وكردة فعل سريعة تستدعي الوريث الأيديولوجي والبيولوجي لليمين التوراتي بنيامين نتنياهو (والده بن تسيون نتنياهو كان سكرتير جابوتنسكي مؤسس اليمين قبل قرن)، ليتكفل بإزالة آثار «العدوان» والاتفاق، وكانت الانتفاضة ومحاولة عرفات - باراك تخلقان مناخات الدم التي أحدثت التحول الكبير في المزاج العام للشعبين لصالح المعارضة، لتتلاشى فكرة أو محاولة المصالحة التاريخية لتنتج انتخاباتهما معارضي الاتفاق من الجانبين، وهكذا أسدل الستار على أكثر المحاولات جدية لتحقيق تسوية لتلك القضية؛ فقد ترك كلينتون، الذي أصيب بالإحباط، رسالة وداعية على مكتب البيت الأبيض يوصي فيها بوش أن يبتعد عن هذا الملف؛ لأن «من يقترب منه يحرق أصابعه»، حسبما نقل الصحافي محمد حسنين هيكل.
لو.. ولو تلك عادة ما كانت رفيقاً دائماً لوقائع التاريخ، ماذا لو تقدم الاتفاق عقدين سابقَين؟ ربما كان سينجح، لكن اسرائيل المزهوة بقوتها حد الثمالة كانت أعمى من أن ترى الحقائق، والفلسطيني المزهو بإعادة تجميع نفسه والاستعداد لخوض معارك التحرير، خصوصاً أنه حتى الأمس كانت لديه الضفة وغزة والقدس، فقد كان يعد نفسه لما هو أبعد.
ماذا لو تأخر عقدين بعد عملية طحن أخرى، هل سيصل الجانبان منهكَين لأنه لا يمكن لأي منهما إنهاء الآخر، ويبحثان عن تجربة جديدة محملة بإرث الدم وحكمة التاريخ مرة أخرى؟ ربما.. ولكن السؤال للفلسطينيين: هل بالإمكان الإعلان عن التنصل من أوسلو الذي أعاد صياغة الفكر السياسي الكوني لصالح حل الدولتين، أي حق الفلسطينيين بدولة؟ هل هي خطوة صحيحة مطالبة المجتمع الدولي أن يسقط تلك الفكرة عن أجندته؟ وإذا كان هناك إنجاز فلسطيني تاريخي تحقق من خلال أوسلو، فهو المساهمة في إزاحة اسرائيل العلمانية، وتسريع دفعها نحو الدولة الدينية لتضعف نفسها من الداخل كما يحدث حالياً.
«حملة ضد الرئيس محمود عباس لأقوال جاءت في خطابه بالمجلس الثوري، لم ينكر فيها المحرقة، قال: إنها تمّت، واستعاد تفسيرات في «لماذا تمّت؟».. تحدث عن تاريخ قديم لا يغير في مسار الأحداث.. يقابله تصريح لرئيس «الموساد» السابق تامير باردو، يعترف بإدارة اسرائيل لنظام فصل عنصري.. أي تحدث عن واقع يمكن تغيير مسار أحداثه.. يثور العالم على تصريح الرئيس الفلسطيني، ويصاب بالصمم أمام كلمات باردو.. تلك واحدة من مزحات التاريخ الصغيرة بعد مزحته الكبيرة بـ»أوسلو» الذي انسحق تحت عجلاته، وقتل الحائزين على جائزة نوبل للسلام»..!