أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - لا فرح في غزة وكأنها احتكرت وكالة الحزن وتوزيعه بين أبنائها، ربما أن أكثر ما كتبت منذ تعاقدي مع "الأيام" قبل أكثر من ثلاثة عشر عاماً عن منطقة جغرافية هو عن تلك المنطقة الحزينة البائسة التي لديها فائض من الألم ما يكفي العالم، منطقة لا تعرف سوى الموت يأتيها من كل جانب ويتربص بأبنائها في الشوارع والطرق وعلى عتبات البيوت وخلف الأبواب المغلقة، ومن الحروب والطائرات وغرق في البحار، ومن الشموع التي خلقت للفرح والأعياد فأصبحت بالنسبة لغزة سبباً للموت.

لنترك السياسة جانباً. فالمأساة وصلت إلى ذروتها حين يموت أكثر من عشرين فلسطينياً محترقين داخل بيتهم في أشد لحظات فرح يسرقونها من أنياب موت محيط ويحرقون معهم قلب شعب يحاصره الموت من كل اتجاه، ولكن التراجيديا بعيدة عن النهاية لشعب ألقى به القدر في عين كل العواصف دفعة واحدة، وعليه أن يسبح معاكساً ومعانداً لكل التيارات ودون أن يملك سوى الدم والدموع زاده وزوادته في كل المراحل.

لا تكفي الصدمة للتعبير عن ما حصل لعائلة أبو ريا التي ماتت جميعها وتركت ما يكفي من الأسئلة، لأن جميع شهود العيان تشابكت أيديهم للإقلاع نحو السماء.

وسر الصدمة أن هذا لم يحدث سابقاً وبهذا الحجم وكان يمكن تداركه وتجنيبنا هول الكارثة.

اعتادت غزة على القصف المباغت والبارود الذي يتفجر دفعة واحدة فيقضي على الجميع، هذا معروف لكن أن ينشب حريق ويموت هذا العدد من الأشخاص دون تمكنهم من النجاة أو الإنقاذ فهناك شيء غريب.

لم نفهم ماذا حدث كما في كل مرة ينشغل فيها التواصل الاجتماعي باستدعاء الانقسام، وهو الذي تحول إلى عقيدة تصلح لتفسير كل ظواهر الكون وتحول مريدوه إلى أبواق مهمتهم التضليل وحرف الحقائق دفاعاً أو هجوماً على نظامي حكم قدما تجربة بدائية في حكم الفلسطيني لنفسه وجمعا حولهما ما يكفي من المدافعين وخبراء التجميل لتزيين الواقع الرث.

هذا شكّل خطراً كبيراً على التجربة الوليدة للفلسطينيين، وحرمهم من الوقوف على الأخطاء والاستفادة من التجارب ومعرفة نقاط الضعف وتجنب تكرار الكوارث.

حين يحدث شيء ما حتى لو خطأ اجتماعي في الضفة يستنفر الجهاز المضاد لتحميل السلطة المسؤولية، وبالعكس حين يحدث شيء في غزة يستنفر هذا الجهاز للدفاع المستميت فيما تبدأ دعاية الخصم في مهاجمة الحاكم في غزة قبل معرفة الحقيقة أو الإجابة عن التساؤلات.

لا يعني هذا أن السلطتين في غزة والضفة ليستا مسؤولتين عن حوادث كثيرة، لكن أجهزة المريدين أضاعت الفرق وعملت على تبهيت المسؤولية لكثرة ما رددت من اتهامات معلبة ومسبقة حفظتها عن ظهر قلب واستخدمت دماء وآلام الناس في دعايتها السياسية وخصومتها غير الشريفة. لكن ليس كل شيء يمكن تحميل نظم الحكم مسؤوليته، وفي كثير من القضايا كان المواطن مسؤولاً عن الكثير من الأحداث. لكن للتضليل أضراره.
ولأن الناس فقدت الثقة في نظام حكم الفلسطيني لنفسه فهي معذورة وهي تشير له بإصبع الاتهام، وما النكتة الشائعة حول السخرية من لجان التحقيق التي يتم تشكيلها سوى تعبير عن واقع الثقة المهزوز حد التحطم. فمن يذكر نتيجة تحقيق واحد قامت به سلطة حاكمة ضد نفسها وحاسبت نفسها ؟ ماذا لو أجرينا استطلاعاً لمعرفة رأي المواطن بجهاز القضاء ومدى استقلاله عن الحزب الحاكم ترى كيف ستكون النتيجة.
لكن في مأساة عائلة أبو ريا تطرح تساؤلات من قبل كثيرين. ما يثير بالنسبة لمواطن يحتفل وقد أغلق على نفسه بثلاث بوابات حديدية عصية على الكسر وباب رابع   ونوافذ مسلحة بحماية حديدية وبلا طريق أو خط نجاة واحد ؟ لماذا يحدث هذا في منطقة لا تعاني من حالات سطو على البيوت، بل إن معاناتها الأبرز من الحروب والقصف وهذه تجعل من الضروري أولوية تسريع الهرب لا تحصينه في الداخل وأولوية البحث عن طرق النجاة وسرعة المغادرة لا المكوث في البيت. فلماذا تفكر الناس بشكل معكوس مع أن واقعها مختلف وتجربتها طويلة ؟
في حالات الحريق لا تنتظر النار وصول طواقم الدفاع لتبدأ بالانتشار، فالأمر أسرع من وصول تلك الطواقم، كما في حالات النزاعات العائلية التي لا تنتظر وصول الشرطة. فكثير من الأمور تتعلق بالمواطن وهو شريك في المسؤولية وهو أول من يفترض أن يتجنب الضرر بوعيه الاجتماعي والصحي والحوادث وبضبط نفسه في الشجارات وباتخاذ كل إجراءات السلامة، فلا يجوز الاستهتار وتبرير كل شيء بالقضاء والقدر.

الفلسطينيون شعب عاطفي هكذا قالت التجربة لأن حدثاً واحداً يذرف معه كل الدموع ويستدعي فتح جرار الحزن. لا أعرف هل بسبب المآسي الطويلة والنكبات التي حلت بالشعب، أم أن للجغرافيا بصمتها على هوية الشعوب أم لأنها بلد الديانات، أم لأن المؤسس ياسر عرفات كان يترك كل شيء بما فيه خطابات زعماء ليتفقد طفلاً فقيراً في مخيم بعيد ؟ أم لكل ذلك ؟ لكن الحقيقة القائمة أن خسارة عائلة بهذا الشكل تسببت بجراح للوطن كله فلا تجرحوا الناس أكثر.