محمد الحسيني - النجاح الإخباري - الوضع الصعب الذي يعيشه المقاولين اليوم والذي كنا دائماً نحاول أن نجد حلولاً لمعالجته.. ربما جاءت جائحة كورونا والإجراءات الوقائية لتعطينا فرصة للجلوس مع الذات والتفكير بعمق في الظروف التي خلقت هذا الوضع المالي الغاية في التعقيد والذي يعصف بمصير شركات المقاولات.. وفي جولة تحليلية من عمق الذاكرة وتسلسل الأحداث فإن النتيجة التي توصلت لها لم تكن كالعادة حيث نحمل المسؤولية للظروف الخارجية رغم كثرتها ولكن هناك مشكلة أيضاً داخلية ومرتبطة بسلوك بعض المقاولين والتي ساهمت في ضياع الكثير من الحقوق.

أتذكر بعجب ما قاله فقيد المقاولين الكبير/ م. رفيق حسونة.. عندما قال أن الجميع يخشى اتحاد المقاولين لأن المؤسسات تنشأ ليتحول الضعفاء باتحادهم إلى قوة بينما المقاول بحد ذاته قوي ولذا فاتحاد الأقوياء يخلق منظومة قادرة على مقارعة الحكومة وانتزاع حقوقها.

بين هذا الكلام والواقع فجوة كبيرة خلقها الاستهتار بنواحي القوة والصمت والتنصل من كبار ممارسي المهنة عن مواجهة المؤسسات في أغلبهم.. معتقدين أحياناً بأن قوتهم الذاتية كافية لمعالجتها فأضاعوا بذلك فرصة توحيد مصادر القوة لبناء الاتحاد القادر على التأثير في السياسات الوطنية وتغيير الأنظمة بكافة أنواعها تحقيقاً لمصالح هذه الفئة القادرة والقوية.. وهذا ما أصاب الجسم الناظم لهم بالوهن تبعاً لذلك.

حالة التشاؤم والضياع من أهم أسبابها عدم الايمان بأن الاتحاد قوة.. والهروب من الالتزام الجماعي والمسئولية الشاملة عن كل قضية أو مشكلة أو حدث عصف بقطاع المقاولات.. كان السبب وراء هذا الانهيار الكبير في أقوى قطاع اقتصادي مؤثر ليس في فلسطين بل في كل دول العالم.. قطاع الانشاءات قطاع مركزي قيادي يؤثر في صناعة السياسات الداخلية بل والخارجية للدول.. وقادر على خلق بيئة عمل نموذجية  لو كان المقاولون متفقون وموحدون ويعملون في إطار جماعي منسق يتفاعل فيه الجميع لتحقيق مصالحهم.

مازلنا وبعد مرور أكثر من ربع قرن على تأسيس الاتحاد نعاني من نفس السلوك المدمر.. ومازال الأقوياء سابقاً يفرون من المواجهة وحتى وهم في قمة أزماتهم حيث تآكلت مصادر القوة لديهم.. وتجرأت عليهم المؤسسات حتى أصبحوا وكأنهم عمال لديهم وليسوا أصحاب عمل يقع على عاتقهم التنمية وخلق فرص العمل وكذلك تدعيم قدرات الحكومات.. بل زاد الأمر سوءاً أن حتى مقاولي الباطن وأحياناً العمال أصبحوا يتحدونهم.. والعجب العجاب أن سلوكهم لم يتغير وما زالوا يرفضوا الاستفادة من الدروس السابقة.

روراً سريعاً على الأحداث تاريخيا منذ ظهور الفئة المغامرة والغير ملتزمة بالأصول المهنية في العمل من الدخلاء على مهنة المقاولات جرت محاولات ضعيفة لوقف الجزارين للأسعار والغير ملتزمين بمعايير الجودة والمواصفات والالتزامات التعاقدية وذلك لأن الكثيرين من المقاولين الكبار.. قالوا بأن هؤلاء عابرون وسينتهون إلى الافلاس والضياع.. والنتيجة أن هؤلاء صحيح أنهم خرجوا من السوق ولكنهم جرفوا معهم عشرات الشركات التي بدون خبرة حاولت المنافسة معهم فسقطوا في فخ التسعير المغامر فانتهوا إلى الافلاس .. ولكن موجات أخرى ظهرت وهكذا دواليك وكل موجة تحصد معها عشرات المقاولين.. ومازال الكثيرون يقولون حتى اليوم إن هؤلاء سيخرجون من السوق.. حتى أصبح الجميع على حافة الخروج من السوق بمن فيهم الصامتون والرافضون للتصدي والمواجهة لهذه الظاهرة المدمرة.

في ظل تعدد المؤسسات المشغلة وطرحها عقود ومواصفات متعددة حسب الجهة المانحة وفرضها معايير ظالمة على المقاولين.. فإن كل محاولات التصدي لهذه الظواهر بما فيها عدم الاعتراف  بالظروف القاهرة والمطالبات وتأخر الدفعات.. إلخ فشلت لان الكثير من المقاولين الأقوياء رفضوا المشاركة.. ظناً منهم بأن عدم معالجتها ستجرف الضعفاء وتبقي الأقوياء القادرين على الصمود .. ولكن التجربة أثبتت أنها جرفت الجميع بلا استثناء وحولت المؤسسات المشغلة إلى قوة مسيطرة تتعامل باستهانة مع هذه الشريحة المستسلمة لشطحاتها وبطشها.

مررنا بأزمات قاتلة كانت تستحق التوقف والمواجهة بدأت منذ الانتفاضة الثانية وتوقف الأعمال ثم العدوان العسكري المتكرر لسنوات والحصار وإغلاق المعابر لفترات طويلة.. ورغم كل ذلك لم تقم المؤسسات الرسمية ولا الدولية ولا الأهلية بتعويض المقاولين عن خسائرهم.. حركات صغيرة وخجولة تمت للمطالبة بهذا الحق الواضح .. ولكن كالعادة تهرب الكثيرون من المواجهة معتقدون أنهم قادرون على حماية أنفسهم أو لا يريدون أن يخسروا في المواجهة .. منتظرين أن يحارب أحد عنهم وعندها يشاركون في الحصاد دون أي ثمن.

إنهار سعر صرف الدولار عملة العقود مقابل الشيكل العملة المتداولة عام 2003 بما يزيد عن 17% وربما تجاوز حتى 2004 23% .. وبنفس الأسلوب الأناني انسحب الكثيرون من معركة المواجهة والمطالبة بالتعويض وكأنهم يمثلون وضع قوم داود الذين قالوا له (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا لقاعدون) .. وسبب هذا السلوك القاتل الانهيار لعشرات الشركات.

ثم جاء الانقسام وزاد الأمر سوءاً وتوقفت الأعمال والجميع ينتظر أن يقاتل الآخرون عنهم ربما نجح الأمر عام (2008) في استرداد قيمة الارجاع الضريبي بعشرات الملايين من الشواقل وكذلك توفير راتب بعد عدوان (2009) لكافة الشركات لموظفيهم حسب فئات تصنيفهم بتمويل من الوكالة وكذلك الأمر بتشغيل أكثر من (1500) عامل في الشركات بتمويل من ميرسي كور والوكالة وغيرهم .. ولكن هذه الانجازات لا يمكن أن تكون مفتاح الحل في ظل نوم الغالبية الهاربة في العسل.

عندما ظهرت مأساة المقاولين في التعامل مع مشاريع المنحة القطرية التي تسببت بخسائر كبيرة للشركات تحولت كل الجهود للمواجهة للفشل حيث كان الكثيرون يذهبون خلسة للجنة القطرية ليقدموا قرابين الطاعة على حساب زملائهم .. ولكن هم أنفسهم دفعوا لاحقاً الفاتورة باهظة وخسروا الكثير .. ولكن المصيبة أنهم لم يتعلموا الدرس.

انحصر السوق ولم تعد المشاريع كافية وانطلقت مجزرة التسعير والجهود المبذولة لمعالجته أفشلها تفشي السياسة القاتلة بالهروب من المواجهة وكذلك الامر فيما يتعلق بالاحتكارات وبالموردين .. إلخ لم تختلف النتائج .. عدوان (2014) وما قبله من وقف دخول المواد الإنشائية عبر مصر وما سببه من شلل وتوقف للمشاريع .. لقت نفس المصير.. ثم الانخفاض الحاد في سعر صرف الدولار عام 2017 وغيرها وغيرها .. كلها فشلت لعزوف الكثيرون عن القتال والمواجهة.

لا أريد هنا سرد القضايا التي لا تعد ولا تحصى التي عصفت بشركات المقاولات ومنها GRM .. ولكن أخطر قضية تظهر بوضوح التمييز وعدم المساواة بين شقي الوطني حيث استمر الزملاء في محافظات الضفة يحصلون على حقهم الطبيعي في الارجاع الضريبين ومقاولي غزة منذ 2008 وحتى تاريخه ترصد لهم ما يزيد عن (80) مليون دولار غير مسددة .. والاندكس على متغير أسعار المواد والعملات يطبق بأشكال مختلفة في محافظات الضفة بينما على مقاولي غزة غير قابل للتطبيق ويدفعون الثمن من جيوبهم .. والصامتون الهاربون مازالوا يمارسون نفس السياسة .. يريدون غيرهم أن يقاتل ويتحمل كل الأعباء وهم يتفرجون... أليست هذه هي مشكلتنا الكبرى؟!

لم يحن الوقت ليصحوا هؤلاء ويغيروا نمط سلوكهم المجرم بحق قطاع المقاولات ويتحركوا ضمن فريق موحد يتجمع كافة المقاولين فيه على قلب رجل واحد لتحصيل حقوقهم الضائعة .. فهناك عشرات الملفات القاتلة التي يجب العمل عليها لخلق بيئة عمل سليمة .. وإعطاء المقاولين حقوقهم والوقوف بقوة ضد أي محاولات لسلب أي حق من الحقوق لأي مقاول.

إن تغييراً جذرياً في السلوك والمفاهيم والعودة إلى الأصل بالاتحاد مجتمعين للدفاع عن المصالح المشتركة هو الطريق الوحيد لإنقاذ قطاع المقاولات.. فإذا نجحنا في خلق حالة متجانسة متكاملة متضامنة بين المقاولين فيمكن عندها الحصول علي الحقوق الضائعة وإرغام الجميع على التعامل السليم الغير مجحف مع المقاولين.. ويمكن من التصدي لكافة السياسات والظواهر السلبية ووضع حد لكل من يخرج عن الخط بقوة وبدون تهاون.. نعم المقاولين قادرين إذا اتحدوا علي وقف مسلسل الانهيار فسياسة الهروب وترك الثور الأبيض يؤكل هو ما سيوصلهم ليقولوا في وقت ليس بعيدا.. ليتني أكلت يوم أكل الثور الأبيض .. فانهضوا أيها المقاولين وتمردوا علي الأنانية  لكي تصنعوا بداية سليمة ..و اليوم وفي ظل أزمة الارجاع الضريبي تلاحظ فئة قليلة تتحرك والباقي يتفرج علي المشهد ..فكيف يمكن انجاز أي تقدم بدون حركة وتفاعل شامل من الجميع ..ربما هي الفرصة الأخيرة خلال الشهرين القادمين ..فمن سيقود التغيير في السلوك نحو التضامن الشامل اذا بقي الكبار يتفرجون من بعيد ولا يحملوا هم بالذات الراية للتصحيح والتغيير لهذا النهج القاتل.