حنا صالح - النجاح الإخباري - الثابت أن لبنان في قلب عاصفة لا أحد يعرف اليوم مداها. مركب خشن أقحَمَ لبنان الرسمي البلد فيه، دون أن يكون له أي مصلحة، بقدر ما بدا صدى لرغبات الخارج. ومهما كانت حذاقة المستشارين وبراعتهم، فإن التصعيد الذي تولاّه رئيس الجمهورية ضد السعودية، ربما أوصد الأبواب أمام إمكانية الحل، بإطاحته كل معالم التهدئة التي تقدمت بعد مقابلة رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، وربما بات من المتعذر اليوم العمل على ترميم «التسوية».
المواقف التصعيدية ضد المملكة السعودية التي أُطلقت يوم 15 من الشهر الحالي، وعاد الرئيس عون يوم 16 منه يؤكدها في معرض تفسيرها، وهي تصريحات قد تضع كل علاقات لبنان مع السعودية ودول الخليج والمحيط العربي الأوسع أمام حائط مسدود، وبتزامنها مع مواقف شبيهة للشيخ حسن روحاني، وهو صاحب الفضل بإعلانه قبل أسابيع قليلة أنه لا يُتخذ في لبنان أي قرار دون استشارة طهران، بدا من الموقفين أن الأولوية هي الالتفاف على شروط الاستقالة ومضمونها ورفض البحث بها.
هذه المواقف لم تكن معزولة عن الزيارة التاريخية التي قام بها البطريرك الراعي للسعودية، التي وجّهت ضربة شديدة لنهج تحالف الأقليات ومن يُروج له ويقف خلفه، وأعطت رسالة مدوية بأن أكثرية اللبنانيين خارج كل اصطفاف يضعهم بوجه المحيط العربي، وجاءت مواقف الراعي المؤكدة الدعم السعودي لاستقرار لبنان، وإعلانه التأييد لأسباب استقالة رئيس الحكومة، لتُحرج كثيرين في القصر وخارجه، وتدحضُ بنياناً هشاً كان يتمُّ العمل عليه، لمنع البحث في مضمون الاستقالة، الذي، منذ إطلالة نصر الله، ارتدى - هذا البنيان - لبوس الحب والهيام للرئيس الحريري الذي أثار غيابه القلق (...)، وطبعاً أسقطت كلمات البطريرك كل ما كان يُقال عن غطاء مسيحي شامل لـ«حزب الله» وسلاحه وما يقوم به، فعندما ذاب الثلج لم يبق إلاّ التيار العوني وأقلية في البيئة المسيحية في خانة تغطية الحزب وأعماله. دوماً كان صوت «بكركي» مسموعاً لدى كثير من السياسيين وأكثر لدى المواطنين، وموقف البطريرك فتح الباب أمام ضرورة حوار جدي حول التغول الإيراني ومصير السلاح الفئوي، وإمعان «حزب الله» في انتهاك سيادة الدولة.
الحريري عائد وما سيقوله في بيروت لن يختلف عما قاله في الرياض، وستُطوى صفحة الجدل حول مكان الإقامة، لتُفتح الصفحة الحقيقية، وهي كيفية تعاطي بيروت مع الاستقالة، التي ربطها رئيس الحكومة بالانتهاك الفاضح للتسوية من جانب «حزب الله»، والانصياع لرغبات طهران، فهل سيتواصل هذا التعاطي مع الاستقالة وكأنها لا تعني لبنان؟ وهل بالإمكان تجاهل خريطة طريق إنقاذ البلد، ومدخلها الحتمي العودة إلى النأي بالنفس عن حرائق المنطقة، وإلى «إعلان بعبدا» والحياد، ووضع حد لمخطط دفع لبنان إلى محور طهران، لأن ذلك الطريق الأسلم للحفاظ على سلمه الأهلي واستقراره وأمنه.
ليس لبنان جزيرة معزولة، له موقعه ودوره ومصالحه، ويستحيل عليه الخروج على التضامن العربي مراعاة لمصالحه وأمنه، وبعد فتح المواجهة العربية ضد الدور الإيراني المزعزع للمنطقة، ووجود استراتيجية أميركية جديدة تدعو لكبح نفوذ إيران، لا يستطيع لبنان أن يكون جزءاً من محور «الممانعة»، كما لا يستطيع أن يكون منصة لـ«حزب الله» ومن خلفه إيران للاعتداء على العرب.
مؤلم أن يُكتب للبنان أن يكون ساحة أو ورقة في ملف الآخرين، فيُدفع باتجاه الخطر دونما أي تبصر أو حتى سؤال، والأخطار هنا داهمة وفي كل مكان. أقله بعد تصريحات ليبرمان وزير الحرب الإسرائيلي، كان على لبنان الرسمي أخذ كل الاحتياطات التي يمكن أن تساعد في استبعاد عدوان إسرائيلي، وأول الإجراءات استنفار أصدقاء البلد وفي المقدمة الأشقاء العرب، والتنبه لما تُحيكه طهران ويُهدد بتحويل البلد إلى أطلال، والسؤال هنا لمصلحة من يتم كشف البلد عربياً؟
وبقدر خطر الاعتداء الإسرائيلي، هناك الخطر الآخر: الشلل السياسي الناجم عن إعلان الاستقالة. إنه شلل يتعمق كل يوم رغم كل المشاورات التي يجريها رئيس الجمهورية، وكل المواقف وجولات وزير الخارجية لم تُبعد الكأس المرة، وكل السيناريوهات حتى المتفائلة ترى استحالة تأليف حكومة جديدة، لأن المحور المرتبط بطهران يحاذر حتى مجرد النقاش في جوهر الاستقالة، وما من مؤشرات تشي بغير ذلك.
كل أهل الحكم الذين بيدهم القرار، هم أمام مسؤولية إنقاذ البلد، وحماية مصالحه ومصالح أبنائه، بالاستناد إلى الدستور، وكل إصرار على الاستمرار في تغطية سياسة الارتهان، ونهج المحاصصة واستخدام لبنان ساحة صراعٍ لحروب الآخرين، سيضع البلد أمام احتمالين: إمّا القبول باستمرار الأزمات وتعطيل قيام دولة القانون، وإمّا وضع البلد على حافة حرب أهلية.
عميقة هي الأزمة السياسية الراهنة، وهي من أخطر ما واجهه لبنان في تاريخه، وهي الدلالة على استحالة التعايش بين الدولة والدويلة، والخوف حقيقي من أن محاولات أخذ لبنان قسراً إلى محور «الممانعة» تؤدي إلى وضعه أمام خطر الانهيار.

الشرق الاوسط