د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - خطوات المصالحة الفلسطينية المتسارعة فاجأت وأربكت القريب قبل الغريب، وخلطت أوراق المحللين السياسيين، فباتوا مذهولين ما بين غير مصدق ومُشكك فيما يسمع ويرى، وبدأوا في ترتيب أوراق لعبهم من جديد لعلها تسعفهم في فهم ما يرون ويسمعون، إلا أن تسارع الأحداث كان أكبر من سرعة إدراكهم وتحليلاتهم فباتوا عاجزين ومبهورين، ففي غضون أقل من عشرة أيام حدثت تطورات عجزت سنين طوال عن إنجازها، ولكن هذا هو حال القيادة الفلسطينية الحكيمة والمُحنكة التي تمتلك في جعبتها الكثير من أوراق اللعب الرابحة التي يمكن أن تفاجأ بها الجميع لتحقيق ما فيه مصلحة الوطن والمواطن.

في العشرين من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أنهى الرئيس محمود عباس خطابه الهام في الاجتماع ألـ 172 للجمعية العامة للأمم المتحدة بعبارةٍ قصيرة قال فيها "إما الاستقلال وإما الحقوق الكاملة للجميع على أرض فلسطين التاريخية"، خلط بها أرواق حل القضية من جديد، وترك الطرف الآخر في حيرة من أمره، فليس لمثل هذا أعد خططه واستراتيجياته. أبو مازن الذي إستشعر إصطفاف أبناء شعبه بمختلف أطيافهم السياسية خلفه، وتحدث بلسانهم جميعاً، أظهر للعالم أجمع موطن قوة القيادة الفلسطينية الكامن في وحدة شعبها، ما يُمكنها ليس فقط من مواجهة كافة التحديات والمعوقات، بل وفرض معطيات جديدة في لعبة التوازنات الدولية على طريق تحقيق مطالبنا الوطنية.

الرئيس فاجأ الجميع كذلك في معرض خطابه بمباركته للجهود الحثيثة التي بذلتها جمهورية مصر العربية لتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، وبإعلانه قبول التفاهمات المبدئية التي توصلت لها كلاً من مصر وحماس بهذا الشأن، وأفضت إلى قيام الأخيرة بحل لجنتها الادارية لإدارة القطاع. وبالرغم من الامتعاض الاسرائيلي الكبير من جهة، والقبول والارتياح الشعبي الفلسطيني من جهة أخرى للخطاب، توقع الكثيرون بأن المضامين التي إشتمل عليها لن ترى النور بخطوات عملية وهي لن تغادر نيويورك، إن لم نقل قاعة مؤتمرات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولن تعدو عن كونها فقاعات إعلامية قصد منها أبو مازن ارسال رسائل عدة لتحسين موقفه السياسي داخلياً وخارجياً بعد الضربات العديدة المتلاحقة التي أسداها له خصومه.

وبدى الكثيرون من الساسة والاعلاميون على قناعة مطلقة بأن محمود عباس، وهو السياسي المُحنك المُدرك لواقع وخبايا الأمور وُيجيد التعامل مع معطيات الحال ومقتضياته، سيعود بلا شك حال رجوعه إلى رام الله لحُسن إدارته للحالة الفلسطينية وفق ما هُيئ وخُطط لها مُطولاً من معطيات فرضها من يعتبر تفسه اللاعب الأقوى أو الأوحد في ساحة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

لم يلبث بعد المتابعون لخطاب الرئيس وأبعاده من تقدير ضرورة إعادة حساباتهم، حتى فاجأهم من جديد بخطوات عملية تُترجم مضمون خطابه، وذلك بإعلان رئيس حكومته في الخامس والعشرين من نفس الشهر، أي بعد مضي خمسة أيام فقط من خطابه، عن عزمه وحكومته بكافة الهيئات والسلطات والأجهزة الأمنية التابعة لها على زيارة القطاع لتُجسد على أرض الواقع مضامين خطاب الرئيس في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وإعادة اللُحمة بين طرفي الوطن.

مرةً أخرى خطوة فاجأت الكثيرين من الساسة والمحللين والإعلامين وزادتهم حيرةً وإرباكا، وإنقسموا بين غير مصدق ومُشكك في مصداقيتها، معتبرين إياه فقاعة إعلامية أُخرى الغرض منها المحافظة على الزخم الجماهيري المُتعاطف مع القيادة الذي خلفه خطاب أبو مازن، وسمعنا من هنا وهناك بأن ظروف الحال، خاصة الأمنية منها، وما أحدثته اللجنة الادارية من معطيات على أرض الواقع وغيرها الكثير من المعوقات، لن تُمكن الحكومة من القيام بهذه الخطوة، وأنها ستُعلن في اللحظة الأخيرة عن إعتذارها عنها، على الأقل في الزمن الحالي، وتأجيلها إلى حين أن تتهيأ الظروف المواتية لها، دون أن تخسر تعاطف غالبية الجماهير المتعطشة للوحدة مع موقفها. الشواهد على ذلك كانت واضحة للعيان، خاصة المتابع لردود فعل البعض ممن تعاملوا بفتور مع إعلان الحكومة، وعمدوا إلى التشكيك في جديته.

في الثاني من اكتوبر/تشرين الأول الجاري أتت جُهينة بالخبر اليقين، حكومة الوفاق الوطني بكامل طواقمها وعلى رأسها رئيس وزراءها غادرت رام الله مُتجهة إلى غزة هاشم، لتُستقبل هناك إستقبال الفاتحين في عرسٍ وطنيٍ جماهريٍ بامتياز، نقلته كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والالكترونية.

جماهير غزة التي أنهكها الحصار وتبعيات الانقسام خرجت عن بكرة أبيها دون ترتيب أو تخطيط من أحد مرحبةً بحكومتها الشرعية، حكومة الشعب والوفاق، في أجواءٍ، نُقلت لنا على لسان مشاركين في الزيارة، تتسم بالصدق والعفوية، وترحيب وصف بالحقيقي النابع من قلوب أدمتها المعاناة.

فصائل العمل الوطني والإسلامي هي الأخرى كان لها الدور الأبرز في إنجاح مقاصد هذه الزيارة من خلال جدية ومسؤولية تعاطيها مع حكومة الوفاق، وتوفير كافة الأجواء المناسبة والداعمة لخطوتها التي ثُمنت غالياً من قبل الشارع الغزي بخاصة والفلسطيني عموماً.

وفي غضون أقل من أربعٍ وعشرين ساعة من وصولها أرض القطاع، سارعت حكومة الوفاق الوطني إلى عقد أُولى جلساتها على ثراه مُجسدةً وحدة طرفي الوطن وسيادتها عليه، وإنطلق وزرائها مباشرة بعد إنتهاء جلستهم، في خطوة طال إنتظارها من قبل كل المخلصين من أبناء شعبنا، إلى إستلام وزاراتهم، يتفقدونها ويتلمسون متطلباتها، وينفذون على أرض الواقع زيارات ميدانية للوقوف على إحتياجات مواطنيهم، وسطروا بذلك خطواتٍ حقيقية ملموسة على طريق المصالحة، بالعمل لا بالقول.

تِباعاً خفتت وتيرة المشككين بجدية مقاصد الزيارة، مع أنهم حاووا التقليل من أهمية بيان الحكومة الذي أعقب جلستها التاريخية في غزة، مدعيّن أنه لم يكن بحجم الآمال والتوقعات المرجوة، متناسين سِنين الإنقسام العشر وإرهاصاتها، ومطالبين بإعمال حكومة الوفاق لعصاها السحرية في سرعة البت بالملفات العالقة، التي يعرفون حق المعرفة أنها ذات طابع سياسي، وأن الحكومة التي شُكلت بالتوافق بين فتح وحماس، مرتهنةٌ أصلاً بحكم تشكيلتها هذه، بحل تلك الملفات وفق ما سيتم التوصل إليه من تفاهمات في إجتماع الفريقين المرتقب منتصف الأسبوع الحالي في القاهرة. وفي السياق ذاته أكد رئيس الوزراء مراتً عدة أن خطط حكومته جاهزة لحل كافة الملفات الصعبة، بإنتظار ما سيؤول إليه إجتماع القاهرة من تفاهمات، وأعلن بأن حكومته وهيئاتها لن تكون إلا عاملاً مساعداً وإيجابياً لأي إتفاق يتم التوصل إليه، وذكر المقربون منه أثناء الزيارة صراحته في الحديث عن كافة القضايا بلغة واحدة في جميع الاجتماعات العلنية والفصائلية.

إسرائيل هي الأخرى تحول موقفها إزاء خطوة حكومة الوفاق الفلسطينية إتجاه المصالحة من الصمت واللامبالاة إلى التهديد والوعيد، ووضع العُصي في الدولايب. فبادئ ذي بدء وقفت حيالها حائرة مقطوعة الأنفاس غير مصدقة، وتعاملت معها بلا مبالاة، حيث توقع وزير جيشها، أفيغدور ليبرمان، الفشل لما أسماه مساعي المصالحة الفلسطينية الجارية حاليا بين رام الله وغزة، وأعتبر في تصريحات نقلتها عنه "القناة الثانية" الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني، "أن الطرفين، فتح وحماس، سوف يلومان بعضهما البعض على عدم التمكن من التوصل إلى اتفاق" وأن "هذه ليست المحاولة الأولى"، ووصف اجتماعات غزة، بأنها "محاولة سياسية أنتهازية من الطرفين بهدف كسب الرأي العام في الشارع الفلسطيني، ولا شيء أكثر من ذلك"، مع تأكيده بإن "الحكومة الإسرائيلية تواصل متابعة التطورات، ولكن المحاولة الجارية بين فتح وحماس لتقاسم قطاع غزة، تدّل على أن الاتصالات سوف لن تتوج في اتفاق".

سرعان ما أستعادت إسرائيل وعيها وأستردت أنفاسها عندما لمست جدية الخطوات والنوايا الفلسطينية، وإنفجر سيل تهديدات قادتها وتوعداتهم، بدءاً من رئيس حكومتها الذي صرح بأن المصالحة الفلسطينية تمس بالأمن القومي الإسرائيلي معتبراً أنها ستكون على حساب الوجود الإسرائيلي، وسارع بالرد عليها بإعلانه المزيد من التوسع الاستيطاني لضرب جهود المصالحة.

تبعه عددٌ من وزرائه الذين هددوا بالسيطرة على العائدات الضريبية المستحقة للسلطة الوطنية الفلسطينية ووقف تحويلاتها، ما لم يتم إعادة جثتي الجنديين الإسرائيليين من القطاع، وإيقاف دفع السلطة لمخصصات الأسرى. ملفاتٌ عديدة أخرى قديمة حديثة ستعمد إسرائيل لفتحها في مُقبل الأيام القادمة كذريعة لتعطيل وضرب المصالحة الوطنية الفلسطينية، وستزداد سخونةً كلما تيقنت قيادتها بجدية المصالحة وأثرها الإيجابي الملموس على الواقع الفلسطيني.

لقد أمسى واضحاً وضوح الشمس أن خطى المصالحة الحالية إتخذتها القيادة السياسية وعلى رأسها الرئيس أبو مازن من منطلق المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا الخالصة، وتسير بها حكومة الوفاق الوطني عن يقين ودراية، وهي ليست عملاً تكتيكياً مرحلياً، ولا مفاوضات عليها مع أي كان لأنها تُشكل مطلباً وطنياً جامعاً لا يمكن التنازل عنه. ونُبشر للخيرين من أبناء شعبنا، وهم كُثر، بأن الحكومة الفلسطينية ما دخلت القطاع لتغادره، بل لتبقى فيه وتستلم مهامها وتضطلع بمسؤولياتها إتجاه أبناء شعبها، ولكنَّ ذلك يتطلب من الجميع التحلي بالصبر، وإحسان الظن بالنوايا والأفعال، كما ويستوجب التكاملية في العمل، ودعم وإسناد فصائله الوطنية والإسلامية لحكومة الوفاق لتمكينها من إتمام عملية المصالحة والإسراع في تخفيف معاناة شعبنا في القطاع، آملين مواصلة التدخل المصري القوي والمباشر بمتابعة تطبيق أدق تفاصيل تفاهمات المصالحة كضامنٍ حقيقي لإنجازها لأن هذه فرصة تاريخية قد لا تسنح مرةً أخرى، ولن يغفر شعبنا لمن يتسبب في ضياعها.