نابلس - نبيل عمرو - النجاح الإخباري - هدأت عاصفة الاحتفال بياسر عرفات، وبدأت المقالات التي تكتب عنه تتخذ منحى فيه قدر لا بأس به من الموضوعية، ومن تقاليدنا البائسة نحن العرب، اننا حين نستذكر زعيما نحبه نرفعه الى مصاف الأنبياء وننزهه عن أي خطأ يمكن ان يرتكبه أي آدمي شائت اقداره ان يكون الأول في حياة وتاريخ شعبه.

اين أصاب عرفات وأين أخطأ؟

لا اراه سؤالا وجيها وملحا في تقويم مسيرته الطويلة حين تكون المعالجة في مجرد مقال، ذلك ان عرفات يقوّم بالخلاصات التي أنجزت في عهده، والتي هي ملك شعبه ومقاتليه وشهدائه ومعتقليه، وهي بكل المقاييس هامة ونوعية، اما البحث التفصيلي في مسيرته الطويلة واستخلاص الدروس والعبر النهائية، فهذا يترك لمراكز بحث مهنية متخصصة لا اراها حتى الان قد توغلت في دراسة عرفات كقائد لأطول ثورة في التاريخ المعاصر ولكنها بالتأكيد ستفعل، وفي امر كهذا فإن التريث لا يعتبر تجاهلا لا بل هو ضرورة لتقويم الوقائع ومحاكمتها بدقة وعمق.

في مقالة بقلم صديقي عاطف أبو سيف لفتت نظري فكرة تستحق النقاش تشير الى ظاهرة من يسمون انفسهم بالعرفاتيين، وكيف ان بعضهم يصور العرفاتية كشهادة حسن سير وسلوك يمنحها المدعي لنفسه فيحصل من خلالها على بعض من كعكة عرفات الأسطورية، التي مهما اقتطع منها المدعون تظل كما هي لا تنفذ.

لدينا عرفات المستمر الى ما لا نهاية ولكن ليس لدينا " عرفاتيون" ذلك ان الرجل الذي قاد الثورة الفلسطينية لعقود وكانت مليئة بالاحداث الجسام واخطأ فيها وأصاب، عمل مع مئات الألوف من البشر على مستوى فلسطين والعالم، وقليلون ربما يعرفون انه اوجد لنفسه دوائر قيادية متعددة، الأولى في تنظيمه فتح والثانية في ساحته الفلسطينية والثالثة في العربية والرابعة في الدولية، وحين كان يصعب عليه جمع من يأخذ برأيهم من المفكرين والساسة، كان يواظب على الاتصال بهم واستضافتهم والذهاب اليهم والاستماع الى نصائحهم التي لم يكن ليخجل من اعتبارها توجيهات وهؤلاء لا يعدون ولا يحصون، من مرتبة رئيس دولة الى مراتب أخرى هامة في مجال السياسة والحكم والصحافة والثقافة.

اذا فإن الرجل كان على تماس مباشر وشخصي مع الالاف من الناس، ما يجعل من مصطلح العرفاتيين غير موضوعي البتة، تماما مثل الظاهرة الناصرية التي كانت في حياة صاحبها منتشرة على مستوى العالم، الا انها بعد غيابه لم يعد لها وجود الا من خلال حوانيت سياسية متناثرة بلا اثر يذكر.

يتشارك عرفات مع عبد الناصر بأن الاثنين ذهبا وظلت سيرتهما على كل لسان ولا يحق لأحد ادعاء وراثتهما.

ان جاز لي ان اقدم تعريفا مختصرا للظاهرة العرفاتية ولصاحبها أقول. ... لقد اجاد عملية الاندماج الكامل بشعبه وبقضيته وثبّت هذا الاندماج بأداء حثيث ومواظب على الأرض فما من معركة فرضت على ثورته الا وكان في الصفوف الأولى للمقاتلين وما من مبادرة سياسية توفر حياة لمشروعه حين يشرف على الموت إلا واقدم عليها حتى وان كانت مخالفة للسائد من الشعارات والاعتبارات.

بدأ بالمشروع الذي عنوانه السلطة الوطنية على أي شبر يندحر عنه الاحتلال وليس انتهاءً بمصافحة رابين وتكرار وصفه له بصديقي الراحل، لم يتظاهر احد ضد ما فعل مع انه كان اشكاليا بكل المقاييس، لماذا لأن الناس كانت تثق به من خلال المقياس الشعبي البسيط الذي يحدد الثقة من عدمها وهو كم معركة خاضها شخصيا وكم مرة نجا من موت محقق.

في حياته الطويلة التي لم تبدأ لمجرد ان صار قائدا رسميا للثورة في الستينيات بل قبل ذلك لم يكن الرجل منزها عن الخطأ فهو انسان كباقي بني البشر غير ان ما يشفع لسيرته ومسيرته ان تاريخ الزعماء لا يكتب بالنقاط وانما بالخلاصات، والخلاصة لحسن حظه وحظنا سجلت لصالحه ولصالحنا.