وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - استكمالاً لقراءة كتاب د. علي الجرباوي «من الطرد إلى الحكم الذاتي» نستعرض هنا أبرز مشاريع التسوية، من المنظار الإسرائيلي والدولي والفلسطيني..
إسرائيلياً: ربما يكون «مشروع آلون» أول مشروع إسرائيلي للتسوية بعد النكسة، مع أنه لم ينفذ حرفياً، إلا أنه ظل عماد السياسة الإسرائيلية للحكومات المتعاقبة، وتقوم فكرته على مرتكزات خمسة: تقوية أمن إسرائيل، ضمان بقاء الأغلبية اليهودية، تأمين استحواذها على أكبر مساحة من الأرض، نهر الأردن حدود ثابتة لإسرائيل وهو خط دفاعها الأول، حصر الفلسطينيين في كانتونات معزولة.. ومع مرور الوقت كانت تتم إضافات وتعديلات على خطة آلون، وصلت إلى حد التفكير بالتنازل عن المناطق المأهولة بالفلسطينيين للأردن وعقد اتفاق سلام معها.. وفي مرحلة لاحقة اقترح شارون طرد الفلسطينيين إلى الأردن وإقامة دولة فلسطينية هناك (الوطن البديل).
ثم جاء مشروع «موشيه دايان»، الذي ارتأى التريث وعدم اتخاذ قرار متسرع بشأن الضم أو الترانسفير أو الحكم الذاتي، والعمل على الأرض بصمت، وترك الأمر مفتوحا ومائعا على السطح، وتهيئة الأمور لتحقيق ضم زاحف للأرض وترانسفير بطيء للسكان، وفوق هذا أراد تسهيل الحياة على الفلسطينيين بحيث يعمل الاحتلال بالحد الأدنى من جنوده، وبأقل قدر من الاحتكاك مع السكان، وإقامة سلطة احتلال تتستر بالعمل من خلف موظفين فلسطينيين، فيتحول الاحتلال إلى ظاهرة غير مرئية. ومنح صلاحيات إدارية واسعة لرؤساء البلديات، تحت سلطة الحكم العسكري الإسرائيلي، مع تحسين الظروف الاقتصادية للسكان، ما يعني أن دايان أول من فكر بمشروع السلام الاقتصادي. ويمكن القول أن هذه النقاط ما زالت عماد السياسات الإسرائيلية حتى الآن.
ثم مشروع «بيغن» للحكم الذاتي، الذي ظل يتدحرج في أروقة صناع القرار الإسرائيلي، انطلاقاً من المفهوم الاستعماري للحكم الذاتي، أي بالصيغة التي تخرج الفلسطينيين من التبعية القانونية لإسرائيل، وتفرض عليهم حكما إداريا دون أي مضمون سياسي، ودون سيادة لا على الأرض ولا على الموارد، وبما يحول دون تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية في المستقبل.
وفي اتفاقية كامب ديفيد تضمنت التسوية بين مصر وإسرائيل مسارين: الانسحاب من سيناء، ومسار الحكم الذاتي، كان مسار الانسحاب من سيناء الجانب الهيّن من المفاوضات (رغم أن إسرائيل أبدت تعنتاً وتشدداً وفرضت شروطاً على كيفية الانسحاب)، بيد أن الموضوع الفلسطيني كان العقبة الكأداء، فهو يصيب المشروع الصهيوني مباشرة، ولا يمكن لإسرائيل التنازل بشأنه (طالما أنها قادرة على ذلك)، ورغم أن الموضوع الفلسطيني كان مطروحا فقط تحت سقف حكم ذاتي بصلاحيات محدودة، مع إبقاء مصدرها بيد سلطة الاحتلال الإسرائيلي (لا حديث عن دولة، وسيادة، وحق تقرير المصير، وحق العودة، والقدس، ومنظمة التحرير..) ومع ذلك ظلت إسرائيل متعنتة، ورافضة التنازل، مقدمة مشاريع حكم ذاتي تجعل منه حكماً شكلياً هزيلاً بلا مضمون، ولا يعطي للفلسطينيين أية حقوق سياسية، ولا يلبي الحد الأدنى من توقعاتهم.. وظلت المفاوضات متعثرة، حتى في عهد مبارك الذي ركز على موضوع الانسحاب من سيناء، ثم أقفل نهائيا مفاوضات الحكم الذاتي مع بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982.
مع مطلع الثمانينيات، أخذت إسرائيل تسعى لخلق قيادات محلية بديلة عن منظمة التحرير، يتم من خلالها إقامة ما يشبه الحكم الذاتي، فقامت بتشكيل وفرض روابط القرى، وانطلقت فكرتها من ادعاء «مناحيم ميلسون» بأن الفلسطينيين ينقسمون إلى قسمين: القسم السيئ المتطرف والمعادي لإسرائيل، وهم أنصار ومؤيدو منظمة التحرير، وهؤلاء أقلية يتركزون في المدن، والقسم الجيد وهم المعتدلون ممن يقبلون التعايش مع الاحتلال الإسرائيلي، ويريدون العيش بهدوء والعمل في إسرائيل، وهؤلاء الأغلبية، ويتركزون في القرى والأرياف، لكنهم مغلوبون على أمرهم، ويخشون التصريح عن آرائهم خشية ردة فعل أنصار المنظمة، لذلك يجب دعمهم وتقويتهم، وذلك من خلال إنشاء روابط أو اتحاد بين القرى الفلسطينية، واعتبارهم ممثلين عن الشعب الفلسطيني..
وفي المقابل كان «شارون» صاحب فكرة أن الوطنية الفلسطينية ليست متأصلة لدى السكان الفلسطينيين، بل هي واردة من الخارج، أي من منظمة التحرير، ومفروضة عليهم، لذا ركز جهده على ضرورة التخلص من المنظمة ومن تأثيرها على السكان، وكان ذلك دافعه لاجتياح لبنان والقضاء على منظمة التحرير، أو على الأقل إخراجها من لبنان، حتى يضعف أو يتلاشى تأثيرها على الفلسطينيين.
ومع فشل روابط القرى، أعلنت إسرائيل في أيلول 1981 عن فصل الجانب العسكري إجرائيا عن الجانب المتعلق بالشؤون المدنية والحياتية للفلسطينيين، وإقامة «إدارة مدنية» للضفة الغربية وقطاع غزة، وحددت لها وظائف وصلاحيات، وهيكل وظيفي، وجعلت على رأسها «مناحيم ميلسون»، ومع فشل الإدارة المدنية في إخفاء الاحتلال، وفي خلق قيادات وطنية بديلة عن المنظمة، ومع صعود نجم رؤساء البلديات الوطنيين والمنتخبين والمؤيدين للمنظمة، وتنامي شعبية منظمة التحرير في الأرض المحتلة، وصل شارون إلى حائط مسدود، فقرر مهاجمة المنظمة في عقر دارها. والمفارقة هنا أن نتائج غزو لبنان جاءت مخيبة لآمال كل من بيغن وشارون، فالأول انزوى على نفسه، حتى مات مكتئباً، والثاني خرج من الحياة السياسية (لفترة طويلة) بعد ثبوت تورطه في مذابح صبرا وشاتيلا.
و»شارون» أيضا صاحب فكرة توسيع رقعة الاستيطان، وتقوية المستوطنين والاستفادة منهم كقوة انتخابية تمنع وصول أي حكومة إسرائيلية تهادن الفلسطينيين، أو تمنحهم جزءاً من حقوقهم، ولكن مسار الاستيطان المتصاعد ونمو التيار المتدين واليمين الصهيوني لم يكن فقط مشروع شارون، بل جاء أيضا متماشيا مع توجهات إسرائيل الجديدة في المجال الاقتصادي، وتحديدا تحولها من دولة الرفاه (فلسفة حزب العمل) إلى النيوليبرالية (فلسفة الليكود).
وبحسب الجرباوي فإن الفرق الجوهري بين حكومات حزب العمل وحكومات اليمين أن الأخيرة كانت منطلقاتها للتسوية عقائدية، تريد الاحتفاظ بكامل «أرض إسرائيل»، ومنح السكان حكماً ذاتياً محدوداً، بينما كان حزب العمل ينطلق من أسس برغماتية، تتيح له التنازل عن التجمعات الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية.. المسألة الثانية أن حزب العمل صار ينظر للخيار الأردني كجزء من الماضي، وأنه لم يعد ممكناً، ما أدى به إلى التحول إلى الخيار الفلسطيني. أما كان كان يجمع أطياف إسرائيل السياسية من يمينها إلى يسارها بما يشبه الإجماع هو النظر إلى غزة كعبء سكاني لا فائدة منها لإسرائيل، ومن الضروري التخلص منها.