وكالات - رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - لا يمكن النظر إلى ما يحدث في السودان على أنه حدث عابر، أو غير مهم، فالسودان يبقى دولة عربية، قوتها قوة للعرب، وضعفها يضعف العرب دولاً وشعوباً ومواقف، وأقل ما يمكن أن يقال فيما يحدث من اقتتال عسكري في الخرطوم وكل الولايات السودانية، أنه بداية لحرب أهلية، فالصراع إنما هو صراع على السلطة بين رئيس ما يسمى بمجلس السيادة ونائبه، وهذا الصراع هو من العبث والسخافة لدرجة أن أحد الطرفين لا يمكن له أن يبرر موقفه بأية شعارات براقة، وطنية أو اجتماعية أو حتى دينية، وحتى أن القتال الدائر إنما يحدث بين الوحدات العسكرية المسماة بقوات الدعم السريع، ووحدات الجيش السوداني، أي القوة الميدانية لما يسمى بالمكون العسكري في مجلس السيادة، وما يفصل بينهما ما هو إلا شخصي، فطرف الجيش يقوده رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح برهان، وقوات التدخل السريع يقودها نائبه، أي نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، أي أن حربا أهلية قادمة طاحنة قد تحرق السودان بأكمله، وهي تقع بسبب الصراع على السلطة بين أول شخصيتين عسكريتين في البلاد، هما البرهان وحميدتي.  
والحقيقة أن السودان الذي استقل كدولة بشكل نهائي بعد استفتاء أجراه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، صوت بموجبه السودانيون على الانفصال عن مصر، بعد أن كان السودان في عهد الانتداب البريطاني جزءاً من المملكة المصرية، حيث كان الملك فاروق الأول ملكاً على مصر والسودان، وعاش السودان سنوات ستينيات القرن الماضي في سلسلة من متواليات الانقلابات العسكرية، في ظل أحزاب شيوعية وقومية ووطنية قوية، حيث كانت السلطة تعتمد على العسكر وممثلي الأحزاب، إلى أن استقر الوضع نسبيا في ظل جعفر النميري بعد انقلاب عسكري قام به الرجل، واختار الطريق القومي الناصري، حتى ثمانينيات القرن الماضي، حين أطاح به انقلاب عسكري قاده عمر حسن البشير، الذي سرعان ما تحالف مع حسن الترابي زعيم الأخوان المسلمين، مستجيباً بذلك للتحولات الإقليمية في الشرق الأوسط عموماً، لكنه بعد سنوات أطاح بشراكته مع الترابي وتفرد بالحكم، إلى أن أطيح به بثورة شعبية قبل أربعة أعوام، وبدا الأمر كما لو كان استكمالاً للربيع العربي، الذي اندلع منذ العام 2011، وأطاح بأنظمة حكم فرد في عديد الدول العربية، لكنه لم ينجح في تثبيت البديل العصري الذي يؤسس للدولة المدنية الحديثة، أي دولة المؤسسات، بعد وضع الحد لحكم نظام الفرد.  
بعد الإطاحة بأكثر من نظام عربي، منذ العام 2011 وحتى الآن، لابد من القول، بأن مشكلة البلاد العربية، إنما تكمن في نظام حكم الفرد المستبد في الغالب، فليس هناك وفق ما نعلم حتى اليوم، من نظام حكم فرد عادل عرفته واحدة من الدول العربية منذ قرون طويلة مضت، ولأن الدول العربية كانت محكومة بنظام حكم الفرد، فإنه ما أن يتم إسقاط ذلك الحاكم حتى تتفتت الدولة الهشة أصلا، وقد حدث هذا أولا قبل عقود مضت، حين أطاح انقلاب عسكري بمحمد سياد بري الرئيس الثالث لجمهورية الصومال العربية، أو رئيس المجلس العسكري، وهو مسمى يشبه مجلس السيادة الحالي بالسودان، ومجالس الثورة التي حكم بها عبد الناصر ومعمر القذافي وبعثيو العراق وسورية، ما بين عامي 1969_1991، أي أنه سقط في العام الذي انهار فيه جدار برلين وكان بري يعد نفسه اشتراكيا بعد أن أنشأ الحزب الاشتراكي الثوري، المهم أنه منذ أن سقط بري في العام 1991، أي منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم تقم للصومال قائمة، وبعد أن شهدت البلاد حرباً أهلية ما زالت ذيولها قائمة حتى اليوم، لم تعد وحدة الصومال.
وحدث هذا أيضا منذ أكثر من عشرين سنة، بعد إسقاط نظام حكم صدام حسين في العراق، حيث أن وحدة البلاد ربما كانت شكلية، فالمنطقة الكردية ضمن وحدة العراق شكلياً، وتعرض العراق إلى خروج مناطق واسعة منه ضمن دولة «داعش»، وما زال الضعف العام في العراق قائماً حتى اليوم، ونفس الأمر حدث مع ليبيا، التي انقسمت على الأقل إلى «دولتي» الشرق والغرب، بعد مصرع الرئيس معمر القذافي، منذ عشرة أعوام تقريباً، وما زالت ليبيا تحاول إعادة وحدة البلاد حتى اللحظة، مع كل ما يعنيه هذا من انكفاء وضعف، انعكس سلباً على قوة العرب بشكل عام.  
نعود للسودان، فبعد أن أطاح البشير بنظام جعفر النميري حكم البلاد منفرداً كما أسلفنا بعد أن حكمها لفترة مع الترابي، مدة ثلاثة عقود، وبالتحديد ما بين عامي 1989_2019، وقع خلالها الانفصال ما بين جنوب السودان وشماله، فقد انفصل نحو ثلث السودان عنه _عشر ولايات_ هي ولايات الجنوب، الذي يقطنه الأفارقة المسيحيون، بعد أن عزز ذهاب البشير مع الترابي على طريق الدولة الدينية الإسلامية من شقة الفرقة والخلاف، بين العرب المسلمين الذين يسكنون شمال السودان، والأفارقة المسيحيين الذين يقطنون جنوبه، وبدلا من أن يتغير النظام بمضمونه العقائدي حفاظا على وحدة البلاد، اختار البشير والترابي التضحية بجنوب البلاد الذي خرج كدولة مستقلة، على تغيير نظام الحكم وتحويله من نظام شراكة العسكر مع الأخوان، لنظام مجتمعي مدني، تنتظم فيه حياة الناس وفق منطق المواطنة.
ولم يهدأ السودان الذي عزز فيه نظام العسكر وحكم الفرد المستبد، القاعدة المجتمعية المركبة على القبلية، فما أن خرجت دولة جنوب السودان من إطار الدولة الموحدة، حتى انفجرت حرب أهلية طاحنة في دارفور، التي تشكل معظم غرب السودان، فقد تمردت القبائل هناك لأنها تعاني من إهمال الدولة المركزية، ولم يستطع الجيش السوداني إخماد التمرد، إلا بعد أن أسس ميلشيا قبلية، كما حدث في العراق في مواجهة القاعدة وداعش، حين شكلت بغداد ما سمي بقوات الصحوة، من عناصر وأفراد موالية للنظام من القبائل المتمردة نفسها.
تلك القوات تم تعزيزها بعناصر من الجيش، سميت لاحقاً بقوات الدعم السريع، حيث نجحت بعد أن ارتكبت مجازر في دارفور في إخماد التمرد، لكن مقابل ذلك دخلت الأمم المتحدة ودول عديدة للعبث بداخل السودان، الذي ما أن «تحرر» من حقبة البشير_الترابي، حتى أدرك أنه في حال يرثى لها من الفقر وضعف الدولة، فالبشير واجه الشعب الثائر بجيش كاد يحرق اخضر ويابس السودان، لولا أن الجيش نفسه ضحى برأسه مقابل أن يبقي على نظام حكمه العسكري، حين انحنى الجيش للإرادة الشعبية وقام باعتقال البشير، وهكذا تشكل مجلس السيادة بعد إسقاط البشير، من مكونين هما العسكري والمدني، وكان كل منهما ممثلاً بخمسة أعضاء، فيما العضو الحادي عشر يتم اختياره منهما معاً، وهو حالياً يمثله العضو المسيحي الوحيد وهي السيدة القبطية رجاء نقولا عبد المسيح.  
الغريب هو أن مجلس السيادة الذي تشكل في أعقاب إسقاط البشير أعلن عدم رغبته في الحكم، وفي أنه سيقود البلاد خلال مرحلة انتقالية مدتها 39 شهراً، لكنه سرعان ما انقلب على المكون المدني بعد أن اختلف ذلك المكون معه على سياسته الخارجية الخاصة بالتطبيع مع إسرائيل، وقام باعتقال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فيما استقالت مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية، وهكذا دخلت البلاد في نفق منذ عامين تقريباً.  
أما اليوم فإن الصراع الشخصي على السلطة ما بين العسكريين: البرهان وحميدتي، ليس لعبة، فالرجلان أحدهما رئيس مجلس السيادة والثاني نائبه، ومكتباهما في القصر الجمهوري، تفصل بينهما الجدران فقط، وإذا كان البرهان يرأس جيش السودان الذي يعد مائتي ألف رجل، فإن حميدتي يقود التدخل السريع القوي والذي يعد مئة ألف رجل، وإذا كان لجيش البرهان طائرات ودبابات، فإن لقوات حميدتي سيارات الدفع الرباعي، كما أنها تسيطر عملياً على ولايات دارفور وكردفان، الغنية بالذهب، أي نحو 8 ولايات من أصل 18 تبقت في إطار السودان بعد انفصال الجنوب، وكل هذا يعني بأن الحرب بين الرجلين إنما هي حرب أهليه لن تنهي بسهولة، وأنها في أحسن أحوالها إذا ما استمرت ستقسم السودان مجدداً، ليصبح السودان الذي صوت على الانفصال عن مصر عبد الناصر ثلاث دول، فقيرة وضعيفة، إن لم تصبح عبئاً على العرب، فلن تضيف إلى قوتهم.