وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - صدرت رواية «الثالث» للروائي الإسرائيلي «يشاي سريد»، ترجمها عن العبرية هشام نفاع، وأصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، «مدار» 2022، مع تعقيب لأنطوان شلحت. تقع في 226 صفحة.
تنتمي الرواية إلى «أدب النهايات». وتدور أحداثها في زمن مستقبلي مُتخيّل، بعد أن تتعرض تل أبيب لقنبلة ذرية تبخّر سكانها، وتحيل مدن الساحل إلى خراب.. ليأتي شخص اعتاد مراقبة النجوم ويتمكن من إعادة توحيد من تبقى من اليهود حوله، وتأسيس مملكة يهودا الجديدة في الجبال (في إشارة إلى مناطق الضفة الغربية) وعاصمتها أورشليم، وطرد الفلسطينيين منها (الذين يسميهم العماليق)، ثم استعادة «تابوت العهد»، وإقامة الهيكل الثالث.
تمثل المملكة دولة دينية يهودية خالصة (ثيوقراطية)، متفرغة تماماً لعبادة الرب، وتطبيق الشريعة، وأحكام التوراة.. يحكمها ملك مستبد، تشبه تماماً الممالك القديمة، التي شاهدنا مثلها في الأفلام السينمائية، حيث نظامها وراثي أوتوقراطي، وحاكمها مطلق الصلاحيات، وتمارس طقوساً دينية شكلانية كتلك التي مارستها الديانات الأيقونية والوثنية القديمة، والتي تتركز حول المعبد والمذبح، وتقديم القرابين والأضحيات والتقيد بالشعائر.
تصور الرواية هذه المملكة على أنها ديستوبيا (الجحيم، والمكان الذي لا يصلح للعيش)، بطلها الملك «يوعاز»، الذي كان مرتداً عن الدين، لكنه سيستخدم الدين في حربه لاستعادة حكم اليهود، فتعيده لحظة تجلٍ إلهية أثناء إقامته في النقب إلى دين أجداده، وينجح في توحيد صفوف من تبقى من شعبه حوله، تدوم مملكته قرابة 25 سنة، تتحوّل حياة سكانها إلى بؤس وشقاء وفقر، ويقودهم في نهاية المطاف إلى هزيمة مذلة، بعد أن يخوض حرباً ضد العرب والفلسطينيين، ينتج عنها خراب الهيكل الثالث.
تأتي الرواية على لسان «يونتان»، وهو ابن الملك.. يكتبها على شكل مذكرات أثناء مكوثه في الأسر حيث يسمح له الفلسطينيون بكتابة شهادته على تلك الحقبة، قبل أن يسوقوه إلى الإعدام.
الرواية مليئة بالترميز.. فمثلاً يونتان، وهو آخر من بقي من أبناء الملك يتعرض في طفولته لحادث تفجير ضمن محاولة من العماليق لاغتيال الملك، ينجو من الانفجار لكنه سيعاني من إعاقة في رجله، ويفقد فحولته. (هل كانت تلك إشارة من الكاتب إلى النهاية المحتمة للدولة الدينية اليهودية؟).
يوكل الملك لابنه يونتان مهمة إدارة المعبد المقدس، فهو لا يصلح لشيء في مجتمع عسكرتاري ذكوري، مع أن تعاليم التوراة تحرم على المعاق والمخصي (والنساء) دخول المقدس، هذا الأمر يجعل يونتان ممتناً لأبيه الذي أوكل إليه هذا المنصب الرفيع، وفي الوقت ذاته سيعيش أزمة نفسية حادة، وإحساساً عميقا بالذنب لأنه خدع الإله يهوه.. وبهذا الإحساس المركب يعيش يونتان طيلة عمره مغيباً عقله تماماً، ومنقاداً كلياً للمقدس، مقتنعاً بكل خرافات الدين، ومخلصاً للملك حتى آخر لحظة.. (وهذه سمات المجتمعات الدينية العسكرتارية المغيبة عن الواقع، والمنفصلة عن العصر، المخدرة عقول أفرادها  كلياً، والمنقادين للسلطة بولاء مطلق، مع انصياع صارم لسطوة المعتقد والغيبيات).
يصف لنا يونتان العلاقة الزائفة بين السنهدرين والكهنوت والملك وأسرته، ويروي خداع والده ووزير حربه الجمهور حين زعما أنهما ظهرا في المعركة لرفع معنويات الجنود، وهنا يصدمه شقيقه يوئيل بالحقيقة، قائلاً: «هذا الشعب الجاهل يشتري كل حكاياتهم الخرافية، أنا لم أعد أصدّقهم، وقد حان الوقت لأن تنضج أنت أيضاً».. لكن يونتان  يجيبه بعناد: «أنا أؤمن بعمق أنَّ الرب أرسل والدنا ليقودنا نحو الخلاص، وأنَّ ما تقوله كفر وتدنيس لاسم الرب، وستجلب علينا كارثة».
يكتشف أنّ شقيقه ديفيد (وزير الدفاع) لم يكن مقاتلاً بارعاً، بل هرب من البلاد حين استشعر بدنو الهزيمة، ويصف العمل في المعبد بأنه ممل ودون جدوى، ويتحدث عن الفقراء الذين يقتطعون من حصة أطفالهم ويقدمون القرابين للمعبد، بينما طبقة الكهنوت يلتهمونها بنهم، ولا يشبعون.. وهنا ينزع الكاتب على لسان يونتان القداسة عن «المقدس» وبلا مواربة، فالذبائح تدنس المعبد بروثها وبولها، كما أن سدنته يغضون الطرف عن التعاليم التوراتية المشددة مقابل المال والامتيازات، ورشوة الأثرياء.
وحسب المعتقد الشائع للمجتمع الأورشليمي فإن القنبلة الذرية التي دكت تل أبيب كانت عقاباً من الرب لسكانها اليهود الآثمين، لأنهم تخلوا عن التوراة والشريعة، وعاشوا حياة علمانية بلا دين ولا أخلاق.. لذلك، لم تُقِم مملكة يهودا أي نصب تذكاري لهم، بل ظلت تعتبرهم هم الذين جلبوا الدمار لإسرائيل.
يأتي المشهد الأخير مروعاً، ومرمزاً.. في يوم الغفران، وهو آخر يوم في حياة مملكة يهودا، كان الفلسطينيون على أبواب العاصمة، ويدكونها بالقذائف.. يلقي الملك خطابا عاطفيا، ثم يأمر بإطلاق رشقة من الصواريخ النووية على المدن العربية البعيدة، ولكن هذا لا يغير شيئاً، وفي خطوة أخيرة يائسة، يأمر الكهنوت الملك بأن يضحي بابنه الصغير قرباناً للمذبح، لعل «يهوه» ينقذهم من نهايتهم البائسة.
وهنا إشارة إلى حالة الهيجان الجمعي بعد أن يتملك السكان الخوف واليأس، فيفقدون بصيرتهم وإنسانيتهم، ويعتقدون أن ذبح الرضيع هو فقط ما يسكن غضب الرب، ويدفعه للتصرف لإنقاذ شعبه المختار! لكن يونتان يرفض ذلك، فيهجم على والده الذي كان يحمل صغيره بيدٍ والسكّينة باليد الأخرى ويهم بذبحه، ويقوم بطعن والده وقتله، ثم يهرب مع شقيقه الصغير، ليقع في الأسر، وهناك يخصص الفلسطينيون مرضعة للطفل.
تُظهر الرواية حدية الصراع على هوية الدولة والمجتمع، خاصة بين العلمانيين (تل أبيب/ الساحل) والمتدينين (القدس/ الجبل)، والمفارقة أنّ كلتيهما تنتهي بالدمار والخراب.. هل أراد الكاتب القول إن نهاية إسرائيل محتمة وفاجعة مهما كانت هويتها، لأنها مشروع استعماري؟ أم أراد تسليط الضوء على خطر تحول إسرائيل إلى دولة دينية يحكمها اليمين المتطرف؟ ربما الخيار الثاني ما أراده الكاتب، خاصة أن حضور الفلسطينيين في الرواية شبحي ومتوارٍ.
يمكن فهم الرواية على أنها تحذير قاسٍ وواضح لمآلات إسرائيل المحتمة، بصورة ديستوبية مرعبة للكابوس القادم إذا ما استمرت في سياسة التهود والتدين واليمينية والتطرف.. فهي تعبر بوضوح كبير عن المخاوف العميقة والرهيبة الكامنة في العقل العلماني الإسرائيلي، الذي مثله مجتمع تل أبيب، تجاه تغوّل الدين والاستيطان والتطرف في المجتمع والدولة والجيش، وتحوله إلى فاعل مؤثر وقوي، بحيث يرتد في النهاية على صانعيه، وتوضح كيف يتحوّل التدين المتطرف وتهويد الوعي والحياة إلى حاضنة للفساد والتضليل والقتل والمقامرة بوجود إسرائيل.