وكالات - صادق الشافعي - النجاح الإخباري - بعد 55 سنة على انتهائها، لا تزال حرب حزيران 1967 تفرض حضورها ليس فقط بنتائجها وآثارها المعروفة، الملموسة والمعاشة، بل أيضا على المستوى الإنساني في أذهان ومخزون ذاكرة أشخاص كثيرين ممن عاشوها على شكل ذكريات لا تزال حية وواضحة.
أنا واحد من هؤلاء خصوصا أنني كنت في ذلك الوقت أدرس في القاهرة.
واسمح لنفسي أن استحضر هنا ثلاث صور:

الصورة الأولى:
في الساعات الأولى لصباح يوم بداية الحرب وقبل الإعلان الرسمي عن اندلاعها كنت مع صديق لي في بيت للطالبات في حي «مدينة نصر». كان الحي حديث التأسيس يتميز بعماراته العالية المبنية على الطريقة الروسية.
ويتميز أيضا بحقيقة وجود مقر هيئة الأركان الحربية المصرية قريبا منه.
كنا نجلس في صالون بيت الطالبات بانتظار أمر ما وإذ بطالبات عدة من ساكنات البيت يخرجن من غرفهن مهللات ومعلنات عن اندلاع الحرب، وان الإذاعات، والمصرية منها بالذات، قد أعلنت ذلك.
كان من الطبيعي أن نغادر البيت. إحدى الطالبات وكانت زائرة للبيت طلبت منا توصيلها إلى بيت طالبات آخر تقيم فيه في نفس المنطقة. لم يكن ممكنا توفر مواصلات فمشينا على ارجلنا. في الطريق، كنا نسمع أساسا ونتمكن قليلا من مشاهدة طائرات حربية تمر مسرعة في السماء من فوقنا، وكنا نطمئن أنفسنا أنها طائرات مصرية فلم نشعر بحاجة إلى التداري أو الاختباء في ظلال ونتوءات العمارات العالية.                                                                                          استمررنا في ذلك حتى حصل إطلاق نار من إحدى الطائرات ولم يكن ممكنا معرفة تبعيتها. بعدها أخذنا موضوع التداري بدرجة أعلى من الجدية.
ومع مرور أول طائرة فوقنا تدارينا ثلاثتنا، وآخرون معنا، بأقرب عمارة، وتدارى آخرون بالانبطاح أرضا في مساحة بين العمارات.
بعدما مرت الطائرة وانتهى وجوب التداري قام المنبطحون عن الأرض.
رجل من أولئك قال جملة شدت كل انتباهنا وأيقظت كل حواسنا ودفعت بالأسئلة إلى تفكيرنا، قال: «الله، هم وصلوا لهنا ازاي؟!»
رغم كل تفاؤلنا المبني على الإعلام الرسمي فقد حفر هذا السؤال لنفسه موقعا في تفكيرنا. خصوصا أن مسؤولا أول في سلاح الطيران المصري كان قد صرح قبل أيام قليلة جدا بما مضمونه أن طيراننا سيتصدى ويشتبك مع الطيران المعادي في اللحظات الأولى لعبوره أجوائنا، فكيف إذاً، قطع هذا الطيران كل المسافة من الحدود حتى «مدينة نصر» في القاهرة؟؟

الصورة الثانية، بعد البدء بسحب القوات:
بعد توقف العمليات العسكرية، تصادف وجودي قبل ظهر أحد الأيام في ميدان الطيران.
والميدان المذكور هو مدخل رئيسي إلى مدينة القاهرة وبعض ضواحيها الجديدة نسبيا
(ضواحي مصر الجديدة) للقادمين من مطار القاهرة والمناطق والمؤسسات القريبة منه أو  على طريقه. في ذلك الوقت، تصادف مرور عدد من الشاحنات العسكرية تحمل كل منها عددا من الجنود العائدين من مناطق القتال كما يتضح من كل التفاصيل.
عشرات من الناس الذين تصادف وجودهم مثلي في ميدان الطيران عملوا ما يشبه التجمع أو التظاهرة العفوية، عنوانها الأساسي كان تحية الجنود وإظهار الإكبار والتقدير الشعبي لهم ولدورهم وتأكيد الثقة فيهم. كان تجاوب الجنود باردا وضعيفا و»كسيرا». واستمر كذلك حتى هتف مواطن عادي من تجمع الناس «ح نــحــارب ... ح نــحــارب».
وجد هتافه تجاوبا سريعا وحماسيا من تجمع الناس، لكن الأهم انه وجد تجاوبا حماسيا أعلى من الجنود في الشاحنات فرددوه بأصوات عالية وبأيد مرفوعة تحمل بنادقهم وتلوح بها.

الصورة الثالثة، يوم تنحي عبد الناصر:
في ظهيرة (8 حزيران 1967) اعلن التلفزيون المصري عن خطاب للرئيس عبد الناصر سيلقيه في مساء نفس اليوم.
كانت أخبار المعارك على جبهات القتال والانسحاب إلى خط الدفاع الثاني قد بدأت تكون مدار حديث الناس، وبدأ معها تلمس بوادر الهزيمة ومرارتها بعد أيام من العيش مع حلاوة النصر التي كانت تنشرها البرامج الإذاعية والبيانات الحماسية.
كان الناس، كل الناس، في ترقب المتشوق والقلق لذلك الخطاب، والخائف مما قد يحمله.
وقتذاك، لم يكن التلفزيون منتشرا في البيوت، وكان التجمع في مقر فرع القاهرة للاتحاد العام لطلبة فلسطين ومشاهدة الخطاب في تلفزيونه هو الخيار الأفضل. وهكذا كان، فقد تجمع منا أكبر عدد يمكن لصالة الاتحاد أن تستوعبه وشاهدنا خطاب الرئيس.
خطاب عبد الناصر الذي اعترف فيه بـ»النكسة» وأعلن فيه استقالته وتكليف زكريا محيي الدين رئاسة البلاد، نزل على رؤوسنا كالصاعقة وأصاب الجميع بحالة من الوجوم والخرس. انطوى كل منا على نفسه، يستوعب حقيقة أننا هزمنا ويجتر حزنه ويتلمس في ظلام الهزيمة تداعيات النكسة على كل مستوى وصولا إلى المستوى الشخصي والعائلي. قررت الذهاب مع الصديقين الأخوين علي وأمين قبعة إلى منزلهما في ضاحية مصر الجديدة، وربما أبيت هناك. وكان الذهاب مشيا إلى ميدان التحرير وركوب الأتوبيس من هناك.
طريق الأتوبيس كانت طويلة وعلى جانبيها أحياء شعبية. كنا نشاهد بأم أعيننا وعن قرب جموع الناس وهي تخرج من بيوتها وأحيائها على غير هدى وبملابس البيت وتهتف بهتافات لا جامع لها إلا رفض استقالة عبد الناصر.
كانت التظاهرات في البداية تجوب شوارع القاهرة على غير هدى، ثم راحت تتجه إلى ميدان التحرير وتتجمع فيه لأنه الأقرب إلى مبنى مجلس الشعب.
مع صباح اليوم التالي، كان هناك بحر من البشر يموج في ميدان التحرير.
وكان هناك احتشاد شبيه في ساحات وميادين كل محافظات مصر.
كان الشعار العفوي الجامع لكل تلك الجموع هو رفض قرار الرئيس عبد الناصر بالتنحي ومطالبته بالعودة عنه.
يومها كنا هناك، في ميدان التحرير، مع أهل مصر وناسها، جموع الطلبة العرب من كل الأقطار.
كنا نهتف بما يهتفون ونطالب بما يطالبون ولكل منا إضافة إلى الهدف المصري والقومي هدفه ووجعه الوطني الإضافي الخاص.
ويومها، صدح صوت أم كلثوم بتلك الأغنية – المناداة المعبرة - التي تم نظمها وتلحينها وتسجيلها وإذاعتها في نفس اليوم:
ابق فأنت الأمل الباقي لهذا الشعـب
ابق فأنت حـبـيـب الشعـب