وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - العيد هو، من قبل ومن بعد، يوم مختلف. نوع من انكسار رَتابَة الأيّام. خروج يوم عن رتل الأيّام. وكان لانكسار يوم العيد في المنفى قلقلة في الرُّوح وزركشة في الأشياء، أشياء الجسد أوّلاً، وأشياء المكان ثانياً.
العيد هو، أيضاً، عيد الناس، العباد.. للآباء صلاة العيد وقلقلة الرُّوح مع فناجين القهوة وحلوى «الملبّس». وللأولاد واجب قراءة «الفاتحة» على روح الجدّ الأكبر، أو الجدّ الأصغر.. وأحياناً الأب الذي «فقع» قلبه ورحل مبكراً قبل أن يكون «عيدنا يوم عودتنا».
للآباء قلقلة في الرُّوح، وذكريات العيد في البلاد، وللأولاد زركشة الأشياء، حذاء جديد، قميص أبيض ناصع. لحم يُطفئ شهوة العام. نقودٌ تكفي لشراء غير «البزر والقضامة».. والعلكة التي تُطرقع، أو تفرقع عندما نملؤها إلى آخرها بهواء زفيرنا، كالبالون الذي يُسمّيه الكبار «نُفّيخة». وفي العيد حرب مُفرقعات بين أولاد جميعهم أشرار، وجميعهم رجال القانون المُسلَّحون.
هذا العيد إذاً، وهذه هي العودة إذاً، ولكن الأولاد ما زالوا في المنفى، فلا بدّ لهم قبل أن يعودوا من إنهاء مرحلة دراسية فاصلة، ولا بدّ لنا، إذاً، من الذهاب، صباح يوم العيد، إلى أصغرنا سناً، لا كما كنّا في المنفى نبدأ اليوم بتقبيل أيدي الجدّ والجدّة، والأخ الأكبر، الذي استقلّ حديثاً في بيت يخصّه، وبدأ يملؤه بأولاد عمّ صغار!
إلى أصغرنا سنّاً إذاً، لأن أولاده عادوا معه أو في ثرثرة قبل أن ينهوا مرحلتهم الدراسية الابتدائية، لم تعد للقهوة نكهة قهوة العيد، صارت القهوة ماء. لم يعد للسجائر نكهتها ولا مفعولها، صرنا نتنفّس دخانها بقدر الهواء النّقي.
فهيَّا - أيُّها الآباء - إلى العيد. العيد في المخيّم، هيَّا إلى مخيّم الأمعري، حيث أوّل الخطوات في الطين تلطخ حُلّة عيد الأولاد.
هيَّا - أيُّها الآباء - إلى القدس في العيد، أو العيد في القدس. قال الجندي، رجل «المحسوم» عند حاجز الرام العسكري: «سيغر».. نزلنا من سيّارة الـ»فان» مباشرة إلى «التكويعة». ضحك صديقنا، الأب، الجندي المُسرَّح من قوات حطين التابعة لجيش التحرير.
ما يُضحِكك؟ سألناه؟ قال: لو أن جندياًّ سوريّاً ردّنا عن حاجزٍ في لبنان، ورآنا «نكوّع» هكذا، لترك موقعه ليلحق بنا ويمنعنا من هذه اللعبة السَّمِجَة.
.. فإلى الحرم القدسي، طبعاً.. ورأساً. القدس هي القدس، وليست قرية «أبيلا» القبرصية نصف اليونانية المسيحية - نصف التركية المسلمة، لكنني تذكّرت شيئاً في «أبيلا» المقسَّمة - الموحَّدة. ساحة القرية ساحة واحدة. نأكل السمك في المطعم اليوناني، ونفضّل شرب القهوة في المقهى التركي على بعد عشرين خطوة. استضافنا عجوز تركي: مسلمون... سأل؟ نعم.. مسلمون. قال العجوز: الحمد لله. إذاً، قلنا للرجل على مدخل الحرم: مسلمون.. والحمد لله. كل عام وأنتم بخير.
زُرْتُ القدس كثيراً خلال عام. زرتُ الحرم قليلاً خلال ذلك العام. له في النفس حضور مهيب رهيب. في الزيارة الأولى قبل عامٍ رفض زميلي دخول مسجد قبّة الصخرة، قال: والله لا أدخلنّ هذا المسجد إلّا في يومٍ معلوم.. هذا قَسَمي بيني وبين نفسي. هذه القدس ليست «أبيلا» وهذه فلسطين ليست قبرص! لزميلنا قَسَمه، لكنه يوم العيد كان في قبرص حيث أولاده.
هذه هي الصخرة... من هنا أسرى النبي محمّد. لكنّ رجلاً أصغى لما نحكي فوجد خللاً في تفاصيل ما نعرف، تطوّع الرجل. أصغينا إلى محاضرة كاملة.. «هنا كان يجلس رجل قرب الباب، أصابته طلقة في العام 1982 بجروح».
.. فإلى المسجد الأقصى، ومن ثم كنيسة القيامة. هنا وجدوا «الصليب الأكبر» الموجود اليوم في اليونان!
صباحُ عيدٍ ماطر، أو تُمطر بين الفينة والأخرى، ونحن نجول في أزقة القدس، بعد أن رفعنا الدعاء في الحرم ليَرحم الله الأب في المنفى، ويُطيل عمر الأم في المنفى.. ويعود الأولاد قبل العيد المُقبِل. «ليكتمل النقل بالزعرور»، قال أحدنا.. هيا نزور كنيساً يهودياً. لكن مواطننا وصديقنا الجندي المُسرَّح من «حطين» رفض. «هيّا نزور أخوالك»؟ ولكنه رفض. هيا نزور يوسف؟.. هيا نزور إيلياهو أخُو المرحومة راحيل، أُمّك التي ماتت فلسطينية في المنفى السوري.. ولكنه رفض.. قال: هذا عيد المسلمين.
سأسأل يوسف «الليكودي» أن تزوروه في عيد «الحانوكاه» مثلاً. يوسف لا يكفُّ عن حديث السياسة، قال. وقال، أيضاً: سئمت أحاديث السياسة في أعياد المنفى. وقال، أيضاً: لا أحتمل من يهودي «ليكودي» - حتى لو كان خالي - أن يقول لي: صاحبكم شمعون بيريس كافر. أنا لا أحتمل هذا المِزاح الثقيل. قال: انتهى الموضوع.
في اليوم الثاني للعيد، قال خالد: هيّا إلى «صردا»، ألا تترحَّمُون على زميلكم توفيق صرداوي؟ ألم يُوصِكُم قبل موته: خُذُوني إلى صردا. عدتم وتركتموه في المنفى.
.. فإلى صردا، إذاً، ومن صردا إلى بيرزيت سيراً على الأقدام، ومن بيرزيت سيراً على الأقدام إلى «جفنا» ربّما لإلقاء السَّلَام على «دار عبلة».. وربما للمقارنة بين أزاهير «الحَنُّون» هنا، وأزاهير «شقائق النُّعمَان» التي تملأ حُقول غُوطة دمشق في نيسان، وربّما للمقارنة مع « البَرقُوق» في ترشيحا، التي زرناها، قبل عام، ولم تكن بشائر أوّل الرّبيع قد هلّت. زهرة الأحمر الصارخ تُبالي بنسمات الرّيح، ولا تُبالي بأحاديث أربعة عائدين.. جميعهم خرجوا من غربيّ «الخط الأخضر» وعادوا إلى شرقيّ «الخط الأخضر». هذا هو العيد. هذه هي العودة؟!
أَلَا يُشبه هذا «سيراناً» شاميّاً.. قال خالد. فقال أحمد: هذه ليست الغُوطة. هذه «نزهة».
وفي قبرص يقولون عن النزهة في الهواء الطَّلْق «فولتا» والعيد هو العيد، يومٌ غير عادي، ولكن شقائق النُّعمَان هي الحَنُّون، هي البَرقُوق.. ونحن لم نعد نحن؟!