نابلس - النجاح الإخباري - بعد عشرين عاماً من التدخل العسكري للولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان، يتكرر مشهد الانسحاب الأميركي المخزي  من سايغون في العام 1975. قبل 46 عاماً خسرت أميركا حرب فيتنام، كان المشهد الأخير للحرب مهيناً ومخزياً ولا يتناسب مع غطرسة القوة الأميركية. كان المنتصر فيتنام وهي الدولة الاشتراكية المدعومة من المعسكر الاشتراكي. في العام 2021 جاء الفصل الأخير من الحرب الأفغانية على هيئة انكسار أميركي مزرٍ، وكان المنتصر حركة طالبان الأصولية المتزمتة المدعومة من رجعيات إقليمية. التاريخ لم يُعد نفسه مرتين، لأنه جاء في المرة الأولى في فيتنام بهيئة مأساة،  ويجيء التاريخ في المرة الثانية في أفغانستان بصورة مهزلة، صور هروب آلاف الأفغانيين واحتشادهم على مدرج المطار وتسلقهم الجماعي للطائرات الأميركية المغادرة، مشهد سريالي يدون الفرق بين المأساة والمهزلة.
 في المرتين، وكما في مرات عديدة،  أميركا تتخلى عن أتباعها، منسجمة بذلك مع لغة المصالح الأنانية التي تفتقد الى أي بعد أخلاقي، فعندما تنشأ مصلحة وأطماع أميركية لها صلة بالنهب والهيمنة، تلجأ أميركا للحرب والاحتلال معتمدة على قوى محلية. وهي في الوقت نفسه تضبط  تطور القوى المحلية على مقاس المصالح الأميركية صعوداً وهبوطاً وانتهاء. فقد تنتهي صلاحية استخدام القوى المحلية عندما تتراجع أو تنتهي مصالح الدولة العظمى الأميركية. في هذا الصدد يبدو أن صلاحية نظام كابول قد انتهت مع تحول السيطرة الأميركية على أفغانستان الى مشروع خاسر، وهنا، لا يهم الدولة العظمى التراجع عن المسوغات التي جرى ترويجها مع بداية احتلال أفغانستان في العام 2001، كالقول بأن أميركا تبني نظاماً "ديمقراطياً" نقيضاً لنظام طالبان المتوحش، وتود رفع المعاناة عن النساء، وفي جعبتها مشاريع للتنمية والتطوير.
لا يهم أميركا وهي تقرر الانسحاب من أفغانستان، التوقف عند مصير مئات الآلاف من الشعب الأفغاني الذين تشردوا في الأسابيع والأيام السابقة فضلاً عن ملايين اللاجئين السابقين خارج وداخل أفغانستان ضحايا الحروب الداخلية والاحتلال الأميركي. خسائر مطّردة وفادحة دفعها ويدفعها الشعب الأفغاني. ففي الوقت الذي خسرت فيه أميركا وحلفاؤها 3592 جندياً قتيلاً خلال العشرين عاماً، بلغ مجموع الخسائر الأفغانية شعباً وجيشاً وعاملين مع قوات التحالف 121.037 قتيلاً. الخسائر الأميركية الفعلية والتي كانت السبب الرئيس في قرارات الانسحاب من أفغانستان ناهزت الترليون دولار. وبحلول العام 2050 من المتوقع أن تصل فوائد قروض الحرب الى 6.5 ترليون دولار. مصدر أرقام الخسائر- موقع "الحرة" نقلاً عن أسوشيتد برس بعنوان حرب أفغانستان تكلفة بشرية ومادية مهولة-. خسرت أميركا في مغامرة الحرب الفيتنامية، لكنها لم تتعظ فأعلنت الحرب على أفغانستان مرتين، والحرب على العراق مرتين وتدخلت في كوبا والتشيلي ونيكاراغوا ودول اميركا اللاتينية لصالح العسكر وقوى رجعية، ودعمت أميركا كل حروب إسرائيل في المنطقة، وتدخلت في ليبيا وفي سورية وكل ذلك، بدوافع بسط الهيمنة والنهب المترافق معها، وممارسة دور شرطي العالم. في كل الحروب والتدخلات الأميركية دفعت  الشعوب ثمناً باهظاً اثناء الحروب وما بعدها بخسائر بشرية واقتصادية هائلة، وبكبح النمو والتطور وبقطع الطريق على تحرر الشعوب وعلى بناء مجتمعات ديمقراطية حقيقية.
بالأمس واليوم، تبين للشعب الأفغاني وللسواد الأعظم من الشعوب التي كانت جزءاً من الصراعات حقيقة اللعبة السياسية الأميركية بكل أبعادها، تعرفت الشعوب على الخطاب والسياسات والوعود والخطط بما هي محض أقوال بعيدة كل البعد عن الأفعال. كانت المفارقة الصادمة، انتصار حركة  طالبان على اميركا وحلفائها. انتصار حركة أذاقت الشعب الأفغاني المر واضطهدته وبخاصة اضطهادها لنصف المجتمع المكون من النساء. برغم ذلك تقبلت أكثرية الشعب هذه الحركة الفاشية على النظام الأفغاني الذي صنعته أميركا. لم يقاوم الشعب الأفغاني عودة طالبان، وقد آثر قبولها على مضض، او الهرب والهجرة الى بلدان أخرى.  
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، لماذا انهار جيش الحكومة الذي قوامه 300 ألف جندي بأسلحة حديثة وتدريب عالي المستوى، أمام زحف قوات طالبان التي عدادها 80 ألف مقاتل فقط. لماذا هرب جنرالات الجيش وموظفو الدولة، كان مشهد هجومهم وتسلقهم طائرات النقل الأميركية أبلغ وأشد وقعاً من مشهد محاولة تسلق المروحية الأمريكية التي أقلعت من على سطح مبنى السفارة الأميركية في سايغون عام 1975 . لقد هرب كثيرون واستسلم كثيرون ولم يبق من يدافع عن الدولة،  ولم يكترث الرئيس والحكومة والوزراء والجنرالات الأفغان بمعاناة شعبهم ولم يحاولوا الدفاع عنه. السبب لا يعود الى قوة وتفوق طالبان، فالجيش الأفغاني أقوى عدداً وعدة، ولا يعود الى مشكلة في وعي وذاكرة الشعب الأفغاني فهو يعرف انه يدفع ثمناً لعودة طالبان إلى سدة الحكم. المشكلة تكمن فشل الدولة الأفغانية في تلبية الحد الأدنى من المواطنة للأفغان، الفشل في بناء مؤسسات الدولة التي ترعى مصالح المواطنين، الفشل في توفير التأمين الصحي والضمان الاجتماعي والتعليم والحريات والدفاع عن القانون والنظام وتأمين فرص العمل. إنه فشل بنيوي على مدار عشرين عاماً، فشل ارتبط بخلق مصالح خاصة لطبقة سياسية على حساب وفي مواجهة مصالح السواد الأعظم من المواطنين الأفغان. ولم تكن تلك الطبقة السياسية بحاجة الى تأييد ودعم الشعب الأفغاني لأنها محمية بالقوات الأميركية والناتو. وعندما انتهت الحماية انهارت الدولة بمختلف أجهزتها وحرصت شرائحها العليا وفي مقدمتهم رئيس الدولة على الهرب مع حُماتهم الأميركيين أو الهرب الى دول أخرى. المشكلة كما نرى في المشروع وحامله الإداري والسياسي والاقتصادي والأمني. ذلك المشروع الذي كان على مقاس مهمة تأمين الغطاء المحلي للتدخل الأميركي، وعندما انكفأ وتراجع التدخل، انهار المشروع الوطني الأفغاني وانهار معه ما هو مشترك بين الدولة والشعب، بل انهارت الدولة المبنية على الوظيفة الكولونيالية. مع انهيار الدولة الأفغانية وغيابها، عاد الشعب إلى روابط عائلية وقبلية ودينية ومذهبية حيث تتواجد حركة طالبان وتسعى إلى استعادة السيطرة على البلد. وكان لها ما أرادت، قد تكون حركة طالبان قد فوجئت من حجم انهيار خصمها ومن وضع أكثر من مُواتٍ لاستعادة السيطرة بشروطها.