نابلس - حسن البطل - النجاح الإخباري - صغيرها محمود بين ذراعيها، وفي بطنها بذرة بعلها حليم التي ستسمى أمينة. هكذا كان خروج مريم، امرأة حليم، من طيرة حيفا، في نيسان 1948 على شاحنة متهالكة، مكدّسة بنساء وأولادهن دون الـ 14، وقليل من رجال تعدّوا الستين من أعمارهم. وكل من في الشاحنة من بشر ينتمون الى جدهم ارحيّم.
***
أين ذلك الكوع القاتل؟
سألت السائق من مخيم جنزور (قباطية) بصفته صديقاً جديداً. السيارة لم تتباطأ سرعتها عند ذلك الكوع قبل سيلة الظهر. في العام 1948 كان الكوع حاداً (أو كانت السيارة شبه خَرِبة، او السائق كان أحمق).. فانقلبت عند الكوع. ربنا ستر. لم تتردّ الى الوادي، كما حصل مع سيارة للجيش البريطاني، هي وجنودها الستة (كما قيل لاحقاً).
***
على قارعة الكوع، وبين الغيبوبة والوعي، رأيت وجه أمي. كانت أمي «مفرّعة» اي حاسرة الرأس. كانت تمزق بأسنانها وإحدى يديها حطتها البيضاء دائما.. لتعصب جراح إخوتي. يدها الأخرى «مخلوعة» عند الكتف.

* سعيد، ابن الشهور التسعة، «انفشخ» رأسه عميقاً فوق حاجبه الأيمن. في الخامسة سيقع من المرجيحة فينفشخ رأسه فوق حاجبه الأيسر. صرنا ندعوه «سعيد أبو الفشخين». وفي الثالثة والعشرين ستنكسر جمجمته ويموت.. وسيدفن باعتباره «شهيدا فدائيا بطلا». وسيودعه رفاقه باعتباره «ابو مشهور» وليس «سعيد أبو الفشخين» .. او الثلاث.
* زينب «انخزق» منخارها. سيظل جرحها علامة وجهها. ستصبح جدّة. وسيظل أثر «الخزق» علامة.
* وفيقة شجّ رأسها بعنف. تحت شعرها الذهبي الكثيف لن يبدو أثر جرحها.
* آمنة ستحمل جرحاً على جبينها سيطويه الزمان والعمر.
***
برئت جراح الجسد في دوما، كبرى قرى غوطة دمشق. جرح امرأة حليم لن يندمل. كان جرحها في قلبها وروحها. سيأتيها جرح فوق الجرح لتموت كمداً وقهراً.
سيشبّ محمود محاولاً، عبثاً، رسم ملامح أبيه من وصف أمه، شقيقته الوحيدة أمينة ستشب ضئيلة الحجم، ربما لأن «ويل» أمها على أبيها جفف الحليب في صدرها.
حليم سيظل مفقوداً، لم يره رجال الطيرة المحاربون لا قتيلا ولا أسيرا، لن تتزوج امرأته غيره.
***
عاد حسين، أخي الأكبر، الذي تركوه جريحا وقت الانسحاب، متسللا من اسرائيل العام 1958. لا خبر عن حليم، توقف أبي وأمي عن متابعة برنامج «طمنونا» في إذاعة إسرائيل. توقف البرنامج، وتوقف آخر المتابعين له: العمة مريم.
***
انشغل قلب امرأة حليم على ابنها محمود، الموظف في دائرة تجنيد بلدة دوما. كان ابن عمتي يداعبنا: صرتم رجالا. بالدور سأستدعيكم للخدمة العسكرية لن اقبل اي «تأجيل دراسي» احتيالي.
نزاهة محمود كلفته 17 عاما في سجون البعث السوري. بعض المتهربين من الخدمة العسكرية دسوا بين أوراقه بيانا لحزب البعث العراقي - القيادة القومية الموالية للعراق، فجاءت مخابرات القيادة القطرية لحزب البعث السوري، وأخرجت البيان وسط دهشته العارمة.
طيلة خمس سنوات منعوا زوجة محمود وأطفاله.. وأمه أيضا، من رؤيته. عندما سمحوا لأسرته برؤيته، كان الحزن قد «هدّ حيل» عمتي مريم، ثم أصيبت بالشلل التام. استلقت في السرير حتى تعفن لحم ظهرها.. ثم الى القبر. بعد ان صارت تبكي طالبة رحمة الموت.
كنا ندعو ابنة العمة أمينة بـ»الصوصة». كانت تضحك، فلما كبرت صارت تضربنا، تزوجها فدائي وأخذها الى مخيم الرشيدية في جنوب لبنان.. ثم أخذتها وعائلتها كلها قنبلة إسرائيلية سقطت على البيت، عاد المقاتل فلم يجد بيتا، ولا زوجة ولا أولاداً!!.
***
مات ويل العمة مريم على زوجها حليم، ثم أماتها ويلها على ابنتها وأحفادها.. وويلها على ابنها، البكر والوحيد، نزيل السجون.
سنوات بعد موت العمة مريم، خرج محمود من السجن بعد 17 عاما دون محاكمة، لم يقولوا له: آسفون. ذهب مع أولاده وحفيده الذي لم يره من قبل الى قبر جدتهم وامه.
***
هذه حكاية عمتي مريم، شقيقة أبي الكبرى، التي خرجت سليمة مع ابنها من انقلاب السيارة، على ذلك الكوع قرب سيلة الظهر؛ قرب جنين 1948.
عندما قطعنا الكوع، لم أحس باهتزاز السيارة.. ارتعش قلبي. وتذكرت عمّتي مريم.. وأشياء أخرى من تفاصيل شريط طويل.

حـسـن الـبـطـل