علي أبو هلال - النجاح الإخباري - في اعتداء جديد وخطير على المقدسات الدينية في القدس قام مستوطن باقتحام كنيسة الجسمانية في مدينة القدس المحتلة، وسكب وقودا داخلها محاولا إضرام النيران في بعض المقاعد الموجودة، وذلك يوم الجمعة الماضي الموافق الرابع من شهر كانون الأول الجاري.

وأضاف شهود العيان أن حارس الكنيسة الواقعة خارج أسوار القدس، برفقة أربعة مقدسيين، طاردوا المستوطن الذي اقتحم الكنيسة وحاول إضرام النيران في المقاعد، وأفشلوا محاولته، قبل أن تصل الشرطة الإسرائيلية، وذكر الشهود أن طواقم الإطفاء الفلسطينية هي من أخمدت النيران "فورا ومنعوا امتدادها". وذكرت الشرطة الإسرائيلية، في بيان لها، إنها ألقت القبض على مستوطن إسرائيلي بعد محاولته إحراق الكنيسة، وأوضحت أن المعتدي، البالغ من العمر 46 عاما، هو من سكان القدس، قد ألحق "أضرارا طفيفة بأحد المقاعد الخشبية في داخل الكنيسة".

يذكر أن هذا الاعتداء ليس الأول الذي يمس دور العبادة والمقدسات الإسلامية والمسيحية ولا سيما في القدس المحتلة، فقد سبق هذا الاعتداء العديد من الاعتداءات التي مست دور العبادة الإسلامية والمسيحية ورجال الدين المسيحيين والمسلمين كإحراق كنيسة الطابغة في طبريا، والاعتداء على الرهبان الأقباط في ساحة كنيسة القيامة، والاعتداء على الحرم الابراهيمي في الخليل، بالإضافة إلى الاعتداءات اليومية التي يشنها الاحتلال ومستوطنوه على المسجد الأقصى المبارك، واقتحامه يوميا، والاعتداء على المصلين، وإصدار قرارات الإبعاد التي تصدر بحقهم.

ويطلق المستوطنون على هجماتهم اسم "تدفيع الثمن"، وهي سياسة عدوانية ينتهجها ناشطون من اليمين الإسرائيلي المتطرف، تقوم على سرقة وتدمير الممتلكات الفلسطينية. وخلال السنوات الأخيرة، نفذ مستوطنون إسرائيليون مئات الاعتداءات على ممتلكات ومقدسات فلسطينية في الضفة الغربية، والقدس المحتلة، وقرى ومدن داخل لأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.

اقدام المستوطن على الاعتداء على كنيسة الجثمانية محاولا احراقها، هي جريمة تذكرنا بجريمة احراق المسجد الأقصى، يوم 21 آب 1969، عندما اقتحم متطرف أسترالي الجنسية يدعى دينيس مايكل روهان المسجد الأقصى من باب الغوانمة، وأشعل النار في المصلى القبلي بالمسجد الأقصى، وجاء ذلك في إطار سلسلة من الإجراءات والانتهاكات التي يقوم الاحتلال الإسرائيلي، بهدف طمس الهوية الحضارية والدينية والثقافية لمدينة القدس المحتلة.

وقد شبّ الحريق في الجناح الشرقي للمصلى الواقع في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى، وأتت النيران على واجهات المسجد الأقصى وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث، وتضرر البناء بشكل كبير، مما تطلب سنوات لترميمه وإعادة زخارفه كما كانت. والتهمت النيران أيضا منبر المسجد التاريخي الذي أحضره صلاح الدين الأيوبي من مدينة حلب، وذلك عندما استعاد المسلمون بيت المقدس عام 1187م. وقد كانت لهذا المنبر الجميل مكانة خاصة، حيث إن السلطان نور الدين زنكي هو الذي أمر بإعداده ليوم تحرير الأقصى.

ما أشبه اليوم بالأمس فقد قام الفلسطينيون بإطفاء النيران التي شبت في الكنيسة بفعل جريمة المستوطن، وبينما قامت سلطات الاحتلال وقت احراق المسجد الأقصى، بقطع الماء عن المصلى القبلي ومحيطه، وتباطأت في إرسال سيارات الإطفاء، هرع الفلسطينيون إلى إخماد النيران، بملابسهم وبالمياه الموجودة في آبار المسجد الأقصى، وذكرت سلطات الاحتلال أن الحريق كان بفعل تماس كهربائي، وزعمت سلطات الاحتلال وبعد أن أثبت المهندسون الفلسطينيون، أنه تم بفعل فاعل، أن شابا أستراليا اسمه دينيس مايكل روهان هو المسؤول عن الحريق وأنها ستقدمه للمحاكمة، ولم يمض وقت طويل حتى ادعت أن هذا الشاب معتوه ثم أطلقت سراحه، وهذا ما يمكن توقعه بعد اعتقال المستوطن الذي حاول احراق الكنيسة، أن تطلق سلطات الاحتلال سراحه بحجة أنه معتوه أو مريض نفسيا.

محاولة احراق الكنيسة تمت ادانتها فلسطينيا وعربيا ودوليا، كما حصل بعد احراق المسجد الأقصى الذي أثار في حينه استنكارا من المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية، وخاصة من قبل مجلس الأمن الدولي الذي اجتمع وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969 بأغلبية 11 صوتا وامتناع أربع دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأميركية الذي أدان فيه إسرائيل ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس. وجاء في القرار أن "مجلس الأمن يعبر عن حزنه للضرر البالغ الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى يوم 21 آب 1969 تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ويدرك الخسارة التي لحقت بالثقافة الإنسانية نتيجة لهذا الضرر".

وعلى صعيد الدول العربية والإسلامية، كانت هناك حالة غضب عارمة، واجتمع قادة هذه الدول في الرباط يوم 25 أيلول 1969 وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي ضمت في حينها ثلاثين دولة عربية وإسلامية، وأنشأت صندوق القدس عام 1976. ثم في العام التالي أنشأت لجنة القدس برئاسة الملك المغربي الراحل الملك الحسن الثاني للمحافظة على مدينة القدس ومقدساتها الإسلامية ضد عمليات التهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلية.

في المقابل علقت رئيسة وزراء حكومة الاحتلال في حينه غولدا مائير على الموقف العربي قائلة: "عندما حُرق الأقصى لم أنم تلك الليلة، واعتقدت أن إسرائيل ستُسحق، لكن عندما حلَّ الصباح أدركت أن العرب في سبات عميق".

فاذا كان ذلك هو حال العرب وقت احراق المسجد الأقصى، فان حالهم اليوم أكثر ضعفا وهوانا، في ظل قيام بعض الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال، وقيامها بإقامة علاقات دبلوماسية معها، وتبادل الزيارات وعقد الاتفاقيات التجارية والاقتصادية معها، وذلك في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وفي ظل استمرار جرائمه ضد شعبنا ومقدساته الدينية وأعيانه الثقافية والحضارية.

استمرار جرائم الاحتلال يملي على الدول العربية والإسلامية استخلاص العبر والدروس، بأن التطبيع مع سلطات دولة الاحتلال هي جريمة، لا تقل عن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وضد الشعوب العربية والإسلامية، وضد مقدساتها الدينية.

ان مواصلة سلطات الاحتلال انتهاك حرمة المقدسات الدينية في مدينة القدس المحتلة، وفي سائر المناطق الفلسطينية المحتلة، والاعتداء على المقدسات والمصلين، وقيامها بانتهاك حرية العبادة ومنع المصلين من الوصول الى الاماكن المقدسة واداء الصلاة فيها، يشكل انتهاكاً صارخاً لحرية العبادة وحق ممارسة الشعائر الدينية التي كفلتها الشرائع والمواثيق الدولية، وخاصة الشرعية الدولية لحقوق الانسان، كما انها تتناقض مع اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1940 وانتهاكا صارخا للمادة 53 من بروتوكول جنيف الاول لسنة 1977 التي حظرت الاعمال العدائية الموجهة ضد اماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي والروحي للشعوب.

وقد اعتبرت المادة (8) فقرة ب من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998م تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية من قبيل جرائم الحرب.

جريمة احراق كنيسة الجثمانية هي جريمة حرب مثلما هي جريمة احراق المسجد الأقصى، بغض النظر عمن أرتكب هاتين الجريمتين، دولة الاحتلال تتحمل مسؤولية هذه الجرائم وفقا للقانون الدولي الإنساني، ووفقا لقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، وهذه الجرائم الخطيرة ينبغي ادانتها والعمل على وقفها، وتقديم من ارتكبها للقضاء الجنائي الدولي، وخاصة لدى المحكمة الجنائية الدولية حتى لا يفلت المجرمين من العقاب وحتى لا تبقى دولة الاحتلال سلطة فوق القانون.

نقلا عن صحيفة القدس