النجاح الإخباري - أنفقت الولايات المتحدة الأميركية مليارات الدولارات عبر أذرعها ومؤسساتها العاملة في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، منذ وقوع الاحتلال إبان نكسة حزيران 1967؛ بغرض ترويج "ثقافة قبول الآخر" و"التسامح" و"العيش المشترك" لدى شعبنا الفلسطيني، وخصوصاً في أوساط الشباب، الذين استهدفتهم الكثير من برامج التبادل الشبابي؛ الثقافية، والتعليمية، والترفيهية. والحق يُقال، إن هذه البرامج حققت أهدافها بنسب عالية رغم أن ذلك قد يكون مؤقتاً.

حدثني صديق انتفع من هذه البرامج، درس في مطلع الثمانينيات في إحدى الجامعات الأميركية بتمويلٍ من مؤسسة تُعنى بالتبادل التعليمي والثقافي، أنه تعرف وهو على مقاعد الدراسة على زميل يهودي أميركي، وكانا يتبادلان أحياناً في الفسح بين المحاضرات، النقاش حول الصراع العربي-الإسرائيلي وتصورات الخروج منه بحلول مُرضية للجميع.

في إحدى المرات، سأل اليهودي الأميركي، صديقي: ما الذي يمنع التعايش المشترك بين شعبينا هناك (في فلسطين) إذا كان هذا الأمر هنا ممكناً بيني وبينك وبين من هم مثلنا؟ فكان جواب صديقي: "هذا ممكن بالطبع، ولكن بين المواطنين من كلا الشعبين الذين تعود جذورهم إلى فلسطين التاريخية؛ أي قبل النكبة وإقامة دولة الاحتلال، وما سبق ذلك من هجرات مبرمجة هدفت إلى تغيير الوضع الديمغرافي في فلسطين وفرض وقائع على الأرض لصالح طرف على حساب آخر".. ضحك صديق صديقي بملء شدقيه لإجابة صديقي، وعقب بأن ذلك لن يكون حلاً ممكناً أو مقبولاً لمئات الآلاف من اليهود الذين ولدوا فيما بعد ويؤمنون بأن هذه الأرض وطنهم. انتهت الفسحة ومعها النقاش بابتسامات مجاملة، ليدخلا قاعة المحاضرة كلٌ متمترس خلف معتقداته.

بعد ربع قرن من عودة صديقي إلى فلسطين؛ يشارك من جديد في برنامج للتبادل الثقافي تستضيفه جامعة أميركية، وضمن فعاليات البرنامج، شارك في أمسية سياسية دُعي لحضورها صناع قرار ومهتمون بالشأن الفلسطيني–الإسرائيلي، وكان لصديقي مداخلة عن الوضع الفلسطيني الراهن كونه قادم من أرض الصراع، وصادف أن وجه له أحد الحضور السؤال ذاته الذي طرح عليه بالأمس البعيد.. عن إمكانية العيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين في هذه البقعة من الأرض، فكانت إجابته على الفور: "هذا ما وافقت عليه القيادة الفلسطينية ويلقى قبول الكثيرين من أبناء شعبنا، ولكن على قاعدة ما أقرته القرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة والتي تكفل العيش بسلام لدولتين متجاورتين لكل منهما سيادتها غير المنقوصة".

قال لي صديقي: "بعد انتهاء الفعالية، وانفرادي بالغرفة، أدركت المفارقة بين الإجابتين، وبدأت أتساءل عن سبب هذا التحول في تفكيري، لأبرر لنفسي أنني أصبحت رب أسرة، وحتى لا تعيش الأجيال الشابة المعاناة التي عاشها السلف". لقد أقر صديقي بالأثر، وبالمحصلة، تغيرت نظرته لسبيل حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو ما نجحت في تحقيقه مرحلياً البرامج المختلفة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر العقود الطويلة الماضية في محاولة لتقبل شعبنا الطرف الآخر.

إن التحيز العلني والأعمى من قبل الإدارة الأميركية الحالية لإسرائيل عبر اتخاذ خطوات من شأنها حسم الصراع ودعم سياسات وإجراءات الاحتلال العنصرية؛ كـ"يهودية الدولة"، والتوسع الاستيطاني السرطاني، وجدار الضم والتوسع، وغيرها، ينمي في أذهان الكثيرين البعد الديني والقومي للصراع، الذي حاولت واشنطن مراراً طمسه، وهو ما يعني تأجيج الصراع في المنطقة بما يهدد مصالح الجميع، ولا سيما المصالح الأميركية. ولكن، لا زال أمام صناع القرار في الولايات المتحدة المتسع لإعادة النظر وتصحيح رؤية ومواقف إدارة ترامب تجاه حل الصراع في المنطقة حتى لا تكون أميركا كـ"التي نقضت غزلها من بعد قوة"!